الجزء التاسع والعشرون

 


الجزء كله له هدف واحد أساسي وهو الدعوة إلى الله. وهذه وصية القرآن ما قبل الأخيرة.واجب المسلمين أن يدعوا إلى الله ويأخذوا هذا المنهج ويحملوه للأرض كلها.مصداقاً لقول الرسول (بلّغوا عني ولو آية) وقال الإمام ابن حنبل: من علم مسألة فهو بها عالم. وعليه فإن كل إنسان مسلم مسؤول عن الدعوة إلى الله مهما كان حديث العهد بالإسلام فأبو بكر رضي الله عنه أول ما أسلم دعا سبع رجال للإسلام. فالكل مسؤول عن الدعوة مهما كان العلم الذي عندنا.

سورة الملك: تدور حول معنى واحد هو: (إعرف قدر الله) والآيات في السورة كلها تتحدث عن قدرة الله تعالى والملك بيد الله فإذا عرفت قدر ربك، ننتقل إلى سورة القلم.

سورة القلم: فيها دعوة لتوثيق العلم. وهذه السورة هي ثاني السور ونزلت بعد سورة العلق (إقرأ) الآن جاء دور الحث على توثيق هذا العلم (والقلم وما يسطرون) فالعلم يوثّق بالكتابة ولهذا ورد ذكر القلم المتعارف على وظيفته بالكتابة والتدوين وهو وسيلة تثبيت العلم. لأنه متى وثّقنا العلم كان سلاحاً لنا في الدعوة وقد كان للمسلمين مكتبة عامرة بالعلوم هي مكتبة بغداد فأين نحن الآن في عصر العلم من توثيق علومنا؟ وتأتي السورة أيضاُ وصف أخلاق الداعية وما يجب أن يتحلى به الداعية من أخلاق ولذا قال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) لأن الرسول هو سيّد الدعاة وأشرفهم خلقاً وعلماً وديناً. وتذكر السورة بالمقابل من كانت أخلاقه سيئة مثل أصحاب الجنة فلا يصح لأي داعية أن تكون أخلاقه سيئة وعليه أن يقتدي بأخلاق الرسول.

سورة الحاقة: آياتها كلها تذكّر بالآخرة. والتذكرة بالآخرة هي وسيلة مهمة للداعية وهي من أهم ما يجب أن يستخدمه الداعية في دعوته لأن التذكرة بالآخرة ترقق القلوب القاسية. وقد احتوت السورة على مشاهد عظيمة من يوم القيامة يوم يظهر الحق الكامل ويعلم الناس إذا كانوا في الجنة أو النار.

سورة المعارج: تتحدث آيات السورة عن صفات المؤمنين وهي مشابهة لسورة المؤمنون وهي مكمّلة لها لأن الداعية عليه أن يتحلّى بالصفات العبادية التي وردت في سورة المؤمنون وكذلك بالصفات الأخلاقية للمؤمن التي وردت في هذه السورة أيضاً.

سورة نوح: بعد أن عرفنا قدر الله (سورة الملك) وتعلمنا ووثّقنا العلم (سورة القلم) وحسّنا أخلاقنا (سورة القلم) وتذكير بالآخرة (القلم) والتحلي بصفات وأخلاق الداعية (المعارج) تأتي سورة نوح سورة مركزية في وسط الجزء تعطينا نموذجاً من الدعاة من البشر وتعرض وسائل الدعوة في قصة نوح . فهو مكث في قومه 950 سنة يدعوهم إلى الله بشتى الوسائل وفي كل الأوقات وآيات السورة كأنها تعرض كشف حساب يقدمه نوح إلى ربه. والسورة اشتملت على فن الدعوة (ليلا ونهارا) (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) آية 5 والإلحاح في الدعوة وقد ابتدأ بالدعوة ليلاً لتدل على أنه لم يفتر في دعوته لا ليلاً ولا نهاراً، وقد دعا قومه سراً وجهراً وعلانية (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) آية 8 و 9. ومن فنون الدعوة إلى الله البدء بترغيب الناس لا بتخويفهم بدلالة قوله (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) آية 10 ذكّرهم بنعم الله تعالى في الكون ودعاهم لاستغفار الله تعالى. ثم ذكّرهم بتذكير سورة الملك وعدد لهم في اسلوب الدعوة عظمة الله تعالى في الكون (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ) آية 13 إلى (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) آية 20 وتذكرة بالآخرة (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) آية 21 كما في سورة الحاقة، وهذا مرتبط بالجزء 28 (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) سورة التغابن، آية 15 الذين انشغلوا بالمال والولد عن طاعة الله.

وتختم السورة بدعاء سيدنا نوح (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ) آية 28 لأنه من صفات الداعية وواجباته أن يدعو للأمة كلها.

سورة الجنّ: نموذج ثاني للدعاة لكن هذه المرة من الجنّ. فالجنّ تحولوا إلى دعاة إلى الله لما سمعوا كلام الله والقرآن. (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) آية 1 تدل على الإنتماء، و(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) آية 2، و (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) آية 6 وفيه تحذير من خطورة الإستعانة بالجنّ واتخاذهم ملجأ من دون الله لأن هذا سيؤدي إلى تعاستهم . وهذا كلام مشابه لما قاله نوح في دعوته لقومه (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا) آية 16. ثم تأتي ختام السورة (لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) آية 28 فيها تركيز على الدعوة.

سورة المزّمل: هذه السورة هي زاد الداعية. فالداعية محتاج للزاد الذي هو قيام الليل حتى يعينه على الدعوة ويقويه (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) آية 2، ثم تنتقل إلى موسى وهو يواجه فرعون الذي تكبّر (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا) آية 15 فقيام الليل هو الذي يعين على صعوبات الحياة وعلى دعوة الناس بالنهار (زادك قيام الليل). وفي الآية الأخيرة في السورة (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) آية 20 كان قيام الليل في أول الدعوة مفروضاً على الرسول والصحابة حتى يتقووا على الدعوة ثم خففت بعد السنة الأولى لأن فيها تمهيد للذين سيقاتلون في السمتقبل (فتح مكة).

سورة المدثّر: سورة الدعوة للقيام بالدعوة. عرضت الآيات النماذج والصفات والزاد فأصبح الداعية جاهزاً للدعوة وهذه السورة تدعو هذا الداعية للدعوة. وتدعو الآيات لتكبير قدر الله تعالى في الأرض وجعل الله تعالى الأكبر بين الخلق. وبالمقارنة بين سورتي المزمل والمدثر نلاحظ سياق الآيات يسير ببطء في سورة المزمل مقارنة بالسياق السريع في سورة المدثر وهذه السرعة أو البطء مناسب لهدف السورتين. وختمت سورة المدثر بالتشبيه بفرار الحمار الوحشي من الأسد (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ) آية50 و 51 وهذا كله يفيد الحركة والسرعة.

سورة القيامة: اعلموا أن نهاية الدعوة موت فالحياة كلها مآلها إلى الموت والنهاية. وهذه السورة سورة رقيقة تذكر بالموت ولقاء الله تعالى. وفي السورة تذكير للناس أن يستمروا بالدعوة حتى لو لم يستجيب الناس لدعوتهم ويكون الفاصل يوم القيامة حين يوفّي الله تعالى كل إنسان عمله (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) آية 12 و (يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) آية 13.

سورة الإنسان: عليك الدعوة وعلى الله الهداية (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) آية 3 ثم تتكلم السورة عن نوعين من البشر أناس استجابوا للدعوة وآخرين عاندوا ورفضوا الدعوة ومصير كل منهما في الآخرة. والإنسان يتحمل نتيجة أفعاله.

سورة المرسلات: فيها آية متكررة هي هدف السورة (ويل للمكذبين) فكأن سورة القيامة والإنسان تقول للداعية ادع واترك الهداية لله وسورة المرسلات تقول يا من كذبتم الدعوة عقابكم (ويل يومئذ للمكذبين) هذا عذابكم في الآخرة.

وخلاصة القول إن الدعوة إلى الله فريضة على كل مسلم ومسلمة حتى تتحقق فيهم آية (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) واستعينوا بقيام الليل على الدعوة واشحذوا هممكم بقيام الليل وعلى المسلمين الإجتهاد في الدعوة والهداية من عند الله تعالى فمن صدق الدعوة فاز ومن كذّب بالله فالويل له من عذاب يوم عظيم.