سورة العنكبوت

 


سورة العنكبوت (مكية)، نزلت بعد سورة الروم، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة القصص، وعدد آياتها 69 آية.

سورة الفتن
وهدف سورة العنكبوت يظهر واضحاً من بدايتها: [الـم & أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] (1-2). "أيها المؤمن، جاهد الفتن، واصبر عليها. فهي سورة الفتن...

هذه الفتن أمر محتوم في حياة المسلم، وهي سنة كونية وقاعدة ربانية كتبها الله على هذه الدنيا. وقد يسأل البعض: لماذا هذه الفتن؟ ألم يكن من الأفضل أن نعيش حياة هادئة، فنصلّي ونصوم ونعبد الله تعالى دون أي فتنة أو مصيبة. من يسأل هذه الأسئلة لم يفهم حكمة الله تعالى ومراده من هذه الدنيا، التي جعلها دار امتحان للآخرة. فبدون فتن، لا يمكن أن يتميز الناس في الجنة، ولا يمكن أن نفرق بين من يستحق الفردوس الأعلى، ومن يستحق أدنى درجات الجنة، ومن لا يستحق دخولها إلا بعد أن يمر بالعذاب... إن من مقتضيات عدل الله تعالى أن يعرض عباده للفتن حتى يميز الخبيث من الطيب.

سنة كونية
لذلك كانت بداية السورة: [الـم & أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ..] هل من المعقول؟ [.. أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ].

هل من المعقول أن تعتقدوا أنكم مؤمنون لمجرد أنكم قلتم "آمنا" بأفواهكم؟ حتى ولو كنتم صادقين في قولها، لا بد من الامتحان. [... وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]...

والأصل أن المؤمن يُبتلى، فلا تظننُّ أبداً أيُّها المؤمن أن الابتلاء يأتيك وحدك، لأن الآية الثالثة تقرر أن هذه الفتنة سنّة كونية: [وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ] لماذا يا رب؟ تأتي الإجابة في الآية نفسها: [فَلَيَعْلَمَنَّ ٱلله ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ] أي ليظهر المؤمن الحقّ من مُدَّعي الإيمان... لذلك تأتي الآية (11) بنفس المعنى: "وليَعلمَنَّ اللهُ الذينَ آمَنوا ولَيَعلَمَنَّ المنافقين".

وهنا قد يتبادر سؤال إلى الذهن: ألا يعلم ربنا - وهو علام الغيوب - من سينجح في الفتن ويصبر، ومن سيقع ويضل...؟ فلم الفتن إذاً؟ والجواب: أن الله تعالى يرسل هذه الامتحانات حتى تعلم أنت أيها الإنسان أمام نفسك، وتكون حجة عليك يوم القيامة.

كان يكفي أن يقول لك الله تبارك وتعالى يوم القيامة: "أنا أعلم أنك لو وضعت في الموقف الفلاني ستفعل كذا وكذا.. اذهب وادخل النار" لكن الله تعالى بحكمته ورحمته وعدله يرسل لك الاختبارات في الدنيا، ويحاسبك على أفعالك الحقيقية في الآخرة. [فَلَيَعْلَمَنَّ ٱلله ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ] (3).

من كان يرجو لقاء الله
ولا تظنن أخي المسلم أن الدنيا سهلة خالية من المشاكل، حتى لو كنت مؤمناً، لأن الإيمان لن يخلصك من فتن الدنيا، والمرء يبتلى على قدر دينه. لذلك تقول لك سورة العنكبوت: إن كنت ترجو ثواب الله، فاصبر على مجاهدة الفتن والاختبارات، حتى تلقى ربك فيجازيك، لأن لقاء الله قريب لا محالة. [مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ٱلله فَإِنَّ أَجَلَ ٱلله لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ] (5) ولا يتبادر إلى ذهنك - وسط الحديث عن الفتن - أن الله محتاج إلى مجاهدتك لها، بل أن جهادك وصبرك هما من أجلك وحدك... لأن الله غَنِيٌّ عن عملنا وعن عبادتنا، وغني عن العالَمِين، ونحن الفقراء والمحتاجون إليه في كل شيء.

[وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـٰهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱلله لَغَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ] (6)

أذى.. لا عذاب
ومن أخطر الفتن التي تعرضها السورة، فتنة الدين، بأن يتعرض المسلم للأذى بهدف إبعاده عن دين الله. والسورة تؤكد أنه أذى وليس عذاباً، لكن الموازين عندما تختل، يظن العبد الضعيف أن إيذاء الناس له هو العذاب بعينه. لذلك تأتي السورة لتؤكد أن هذا ليس صحيحاً، لأن العذاب لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى: [وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِٱلله فَإِذَا أُوذِىَ فِى ٱلله جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱلله وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ ٱلله بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ٱلْعَـٰلَمِينَ] (10).

من أصعب الفتن
وتمضي آيات السورة لتدور حول نفس المحور: الفتن هي التي ستكشف إيمان الناس وتختبر معادنهم، وتظهر صدقهم من زيفهم. لذلك تأتينا بفتنة أخرى، بأن يضغط الوالدان على ابنهما حتى يبعداه عن طاعة الله، إما خوفاً عليه أو عناداً لدين الله: [وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (8).

فتنة شديدة وصعبة، هل سيثبت على الدين، وهل سيبقى على بر أبويه رغم كفرهما؟

سبل النجاة من الفتن
ومن لطائف السورة، أنها ابتدأت بتقرير أن الفتنة موجودة في حياة الناس وأنها شديدة وصعبة:

[أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] (2)، بينما ختمت السورة بآية جميلة، تثبت لنا أن الفتنة سهلة وأن الله سيهدينا ويساعدنا في اجتيازها إن جاهدنا:

[وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱلله لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ] (69)، هذه الآية تتحدث عن جهاد النفس والفتن، لأنها نزلت في مكة حين لم يكن الجهاد بالسيف قد فرض بعد، وكأنها تقول لنا: جاهدوا أنفسكم وانتصروا عليها، تضمنوا الانتصار على العدو الداخلي والعدو الخارجي...

أئمة المجاهدين
ثم تستعرض السورة كيف واجه أنبياء الله تعالى - نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى - الفتن وجاهدوها. فإذا نظرنا إلى قصة نوح التي وردت في السورة، وجدنا أنها السورة الوحيدة التي ذكرت مدة دعوة سيدنا نوح لقومه (950) سنة: [فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً].

حتى يعرف المؤمنون، عبر الأجيال، أن الفتن حتمية الوقوع، فحتى الأنبياء لم يسلموا منها.

ولنعرف مقدار المجاهدة والصبر اللذان بذلهما سيدنا نوح، فيكون ذلك معيناً لنا على تحمُّل ما قد نواجه من فتن، والتي هي طبعاً أقل من فتنته بكثير وبعد ذلك فتنة أخرى: سيدنا إبراهيم وصبره على قومه لما قالوا: [ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱلله مِنَ ٱلنَّارِ] (24) لتثبت لنا بشكل عملي أن الله تعالى يعيننا على مواجهة الفتن، لكن المطلوب هو أن نبادر إلى مجاهدتها [وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] (69).

لماذا العنكبوت؟
وبقي أن نتحدث عن سبب تسميتها باسم "العنكبوت"، فعندما يضرب لنا ربنا مثلاً بمخلوق ما، فإن هدف السورة مرتبط لا محالة بهذا المثال. فمثلاً، سورة النمل، كانت سورة التفوق الحضاري، فكان رمز هذا التفوق، أمة النمل، التي هي أمة فائقة التنظيم والأخذ بمقومات الحضارة. وسورة النحل، التي كان هدفها: "الشكر على النعم"، أظهرت لنا كيف أن هذه المخلوقات، حين اتبعت أوامر الله، خرج منها عسل شهي ومفيد، فيه شفاء للناس، لتثبت لنا أننا إذا اتبعنا أوامر الشرع، فسيخرج نور الهداية الذي هو شفاء للناس، كالعسل تماماً.

ويعود السؤال من جديد: لماذا سميت سورة الفتن باسم العنكبوت؟

شبيهة بخيوطها
ويعود ذلك إلى أن تداخل الفتن يشبه خيوط العنكبوت. فطبيعة الفتن أنها متشابكة ومتداخلة، فلا تقدر أن تميز فتنة دون سواها، وهي كثيرة ومعقدة، تغطي تفاصيل حياة المرء.. لكنها بالمقابل هشة وضعيفة، إذا استعنت بالله في مواجهتها: [وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ] (41).

والإنسان عادةً إذا أصيب بفتنة، انقلب على وجهه وجرى يبحث عن ملجأ. وفي الغالب (للأسف) يستعين بغير الله تعالى، ويلجأ إلى البشر. لذلك تقول لنا السورة: إذا لجأتم إلى البشر هرباً من الفتن، فستكونون كمن هرب ولجأ إلى بيت العنكبوت، بيت ضعيف هش لا يقي صاحبه ولا يستره: [مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱلله أَوْلِيَاء كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ] (41). وكأن المعنى: من أشد الفتن وأخطرها، أن ترضي الناس على حساب دينك، أو تستعين بغير الله أو تتوكل على غيره.

أوهن البيوت
وبيت العنكبوت واهن بسبب ضعف خيوطه، ومن الناحية الاجتماعية أيضاً. فبعد أن يلقِّح الذَّكر الأنثى تقوم بقتله والقائه خارج البيت... وحين يكبر الأولاد، يقومون هم أيضاً بقَتل الأم وإلقائها خارج البيت... بيت عجيب، من أسوأ البيوت على الإطلاق.

لذلك ضربت لنا السورة مثل العنكبوت، لتعلمنا أن خيوط العنكبوت الكثيفة، وان كانت معقدة، فهي تشبه الفتن في أنها واهية. ولتصور لنا أن استعانتنا عند الفتن بغير الله تعالى، هي تماماً كمن يلجأ لهذا البيت الواهي في علاقاته وفي أسسه. فسبحان الله على اختيار هذا الاسم لسورة الفتن، حتى يحذر الناس من تقليد هذه الحشرة في حياتها ومن التشبه بأفعالها.