سورةالأنعام

 


سورة الأنعام (مكية) وهي أول سورة مكية في ترتيب المصحف (سور البقرة إلى المائدة كلها سور مدنية)، نزلت بعد سورة الحجر وعدد آياتها 165 آية.

ليل أبيض
رافق نزول هذه السورة ميزات عديدة. فهي أولاً نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة (في ليلة واحدة)، بينما نلاحظ أن كل السور الطوال في المصحف كانت تتنزّل آياتها متفرقة. ولعل من أجمل ما يميّز هذه السورة أنها نزلت يحفها سبعون ألف ملك لهم زجل - أي صوت رفيع عالي - من التسبيح يسد الخافقين، وكل هذا في وقت الليل..

هدف السورة
تبدأ السورة بقوله تعالى: [ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ]، فتشعر أخي المسلم من بداية السورة بهدفها ومحورها الأساسي، ألا وهو توحيد الله عز وجل وعدم الشرك به أبداً، وأن لا يكون في قلبك غير الله تبارك وتعالى.

وتتكرّر مسألة توحيد الله تعالى وعدم الشرك به 49 مرة في السورة، في49 آية أي حوالي (30%) من مجموع السورة. ولهذا نعلم سبب نزولها بهذه الهيبة ولماذا كان يحفها سبعون ألف ملك كما ويمكننا أن نستشعر الحكمة من نزولها ليلاً، فإنَّ جوَّ الليل يناسب هذه الروحانيات.

المخاطبون في السورة
في خضم الأفكار والمذاهب ومناهج الحياة المختلفة - سواء أكانت هذه الأفكار عبادة للأصنام أو لقوى الطبيعة كما في عصر النبي، أو إلحاداً وإنكاراً لوجود الله كما في عصرنا الحديث - تأتي سورة الأنعام لترد على كل هؤلاء من خلال الحديث عن قدرة الله وعظمته في الكون. ولهذا فإن السورة تخاطبك أيها المؤمن أولاً، لتزيد من إيمانك بالله وحبك له وإخلاصك في عبادته. وإلى جانب ذلك فهي تعطيك مادة للرد على الماديين ومنكري وجود الله: من خلال الحديث عن قدرة الله في الكون، ثم نقض زعم الملحدين بأنّ الطبيعة هي التي خلقت الكون، أو أن الكون خلق صدفة، فالإتقان والإبداع في الكون هما أكبر دليلين على عظمة الخالق جل وعلا وتوحيده.

وتخاطب هذه السورة فريقاً ثالثاً، وهم الناس الذين يؤمنون بالله لكنهم لا يريدون أن يطبّقوا هذا الإيمان في سلوكهم. فتوضح لهم - كما سيتبين معنا في آخر السورة وفي سبب تسميتها - أنّ الإيمان لا يتجزأ، وأنه يجب أن يطبّق على الاعتقاد القلبي وعلى السلوك معاً. وهنا نفهم أهمية نزولها دفعة واحدة، وذلك للتأكيد على أن التوحيد متكامل جملة واحدة في الاعتقاد والتطبيق.

بداية السورة موجة آيات القدرة.
تبدأ السورة بثلاث آيات تظهر قدرة الله تعالى: [ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ & هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَه]ُ وبعدها قوله تعالى: [وَهُوَ ٱلله فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَفِى ٱلاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ]. وقوله تعالى: [فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ] (5).

فهذه الآيات تدعو مَنْ يقرأها إلى أن يستشعر قدرة الله تعالى.. فإذا وجد إدباراً من الكفار المنكرين، استشعر عظم جرمهم ومدى جرأتهم وضلالهم، وواجههم بآياتها.

الزمان.. والمكان
وتلاحظ في الآيات معنىً لطيفاً.. فالآية (12) تقول: [قُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ قُل لله]، والآية (13) تقول: [وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ]. الأولى تذكر أنّه ملَكَ المكان [ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ] والثانية تذكر أنه ملَكَ [ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ] أي الزمان، فسبحان من خلق الزمان والمكان وأخضعهما لملكه.

ما العلامة..؟!
فإذا عرفت أنّ الله ملك الزمان والمكان.. فاقرأ بعد ذلك آية المواجهة الرائعة: [قُلْ أَغَيْرَ ٱلله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ] (14) [قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] (15) [مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ] (16). فالآيات تريد منك أخي المسلم أن تتحرر من كل مظاهر العبودية لغير الله، أو الخوف من مخلوق، فتلك علامة المعرفة وثمرة التصديق.

لاحظ في كل ما سبق أن كلمة (قل) تأتي دائماً بعد كلمة (هو)، وكأنّ المعنى: استشعر من (هو) الله واملأ قلبك بحبه، ثم تحرك و(قل)من هو الله وادع إليه وواجه كل من يشرك به.

حادثة عملية في المواجهة
ثم تأتي جماعة من الكفار ليقولوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: هل معك دليل على رسالتك؟من يشهد لك أنك نبي؟ ومن يشهد أنّ إلهك واحد؟ فلقد سألنا اليهود عنك ليشهدوا لك فقالوا لا يوجد عندنا دليل.. فترد عليهم إحدى آيات المواجهة (الآية 19): [قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱلله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱلله ءالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ] فهل في الكون كله أعظم من شهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه ولنبيه.

مشاهد حية من يوم القيامة
وأحياناً تشعرك الآيات أنك تشاهد مناظرها وتسمع أهلها..
فها هم يقفون أمام جهنم [وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ] (27).

ثم تنقلك الآيات إلى وقفة جليلة مهيبة، لطالما كذّب بها الكفار وأنكروها، وقفة أمام جبار السماوات والأرض [وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] (30). وانظر إلى هؤلاء المثقلين المتعبين من الفسّاق والفجار بأحمالهم الثقيلة.. أنظر إليهم [وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ] (31).

الصبر والتثبيت عند المواجهة
ولا تكتفي الآيات بمد النبي صلى الله عليه وسلم (وبالتالي كل الدعاة إلى الله) بالحجج والردود اللازمة لمواجهة الكفار فحسب، بل أنها تثبته وتعينه على الصبر على ما يلقاه من التكذيب: [وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ] (10)، وتقول أيضاً: [وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُنَا...] (34).

ولكن قمة التثبيت تأتي في قوله تعالى: [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱلله يَجْحَدُونَ] (33). يا محمد، إن هؤلاء لا يكذّبون شخصك، إنهم يكذّبون الله وآياته، فهو ولّيك وناصرك من دونهم.

كلمات كالموج الهادر
وتمضي الآيات على نفس السياق: آية قدرة فآية مواجهة. فتأتي آية رائعة في بيان قدرة الله تعالى:
[وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء] (38).

فإذا جحد هؤلاء الظالمون بكتاب الله، تبدأ الآيات في الشدة بمواجهتهم.
[قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱلله أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَ ٱلله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ] (40).

وتحذرهم من التمادي في المعاصي حتى لا تطبّق عليهم السنّة الكونية في البشر [حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ] (44).

وتأتي موجة جديدة من آيات المواجهة التي تبدأ بكلمة [قل]:

[قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱلله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱلله يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ ٱلاْيَـٰتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ & قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱلله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ] (46-47). إنّ سياق الآيات والكلمات يرقق المشاعر ويجعل القلب يخشع ويرغب في القرب من الله.

أسلوب جديد في المواجهة
ولأن الآيات تجهّز النبي r ليواجه قومه بالدعوة، فإنها تستخدم أسلوباً جديداً في الآية (57) ففي قوله تعالى: [قُلْ إِنّى عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَكَذَّبْتُم بِهِ...] تأكيد على الثوابت العقائدية، وثقة بالنفس تهز الطرف الآخر. وهي طريقة دعوية مفيدة نتعلمها من آيات السورة.

شمول العلم والقدرة
وتبدأ الآيات في موجة جديدة من عرضها لقدرة الخالق، في سياق يهز القلب ويحرك أوتاره:

[وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلاْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ](59) وكأنك ترى الورقة وهي تسقط في الصحراء أو على جبل أو في قاع بحر..

ومن الذي يتوفى الأنفس؟ إنه الله
[وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ](60) فكيف تشركون به؟

ومن الذي شمل الخلق علماً وعدداً؟
إنه الله [وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً](61) أي ملائكة تحفظكم من الآفات وتكتب أعمالكم من الحسنات والسيئات.

ومن الذي ينجي العباد من مهالك البر والبحر؟
إنه الله [قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ] (63). فكيف تشركون به؟

فإن شكّك أحد في ذلك فإن الآية ترد عليه بقوة:
[قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] (65) فمن الذي يخرج عن قدرته أو يغيب عن شمول علمه سبحانه وتعالى..؟!

فما هو شعور المؤمن الذي يقرأ سورة الأنعام؟ إنه يشعر أن مشاعره تهتزّ وهي تنزل على النبي ليلاً في موكب من الملائكة.. يشعر بصوت الملائكة وهم يسبّحون الله لعظمة هذه السورة.. فهذه السورة تزلزل النظرة الإنسانية وتطوف بالإنسان لتأخذه إلى ملكوت السموات والأرض والنهار والليل والبر والبحر والشمس والقمر والنجوم.. تريك الجنات المعروشات.. إنها تطلعك على ملك الله عز وجل.. حتى تصل إلى آية أخرى من آيات القدرة

[وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ بِٱلْحَقّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّوَرِ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ] (73).

رحلة مؤمنة: سيدنا إبراهيم وقومه
وتبدأ السورة بعد ذلك في عرض قصة إبراهيم ونظره في مظاهر قدرة الله في الكون.. ليسير نسق الآيات بين القدرة والمواجهة. إن هذه القصة ليست منفصلة عن ترتيب السورة بل إنها وظّفت لتخدم الهدف تماماً.

يقول تعالى: [وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ & فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ ٱلاْفِلِينَ] (75-76). إنه ترتيب السورة نفسه، فإنه عليه السلام ينظر في قدرة الله تعالى: [فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبّى هَـٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ] (78). نعم لأنَّ الإله لا شك أنه أعظم من هذا كله ولذلك قال: [إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ] (79). وبعد استخدامه لأسلوب عرض آيات القدرة تبدأ المواجهة [قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى ٱلله وَقَدْ هَدَانِى...] (80) مع تركيزه على نفي الشرك وتوحيد الله [وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً] (80).

لذلك أثنى الله على هذا الأسلوب الدعوي بقوله تعالى: [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ...] (83).

التحذير الشديد من الشرك
وفي التعقيب على قصة إبراهيم تأتي آية محورية في التحذير من الشرك:
[ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ] (82).

لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله، قالوا: وأيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله: ليس كما تظنون، إنما هي كما قال العبد الصالح لابنه(أي سيدنا لقمان): إن الشرك لظلم عظيم.
وحتى في الحديث عن أحب الخلق إلى الله، وهم الأنبياء، تقول الآيات بوضوح [وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ] (88).

قدرة ومواجهة في نفس الآية
نصل إلى الآية (91) والتي اشتملت في أولها على آية من أروع آيات القدرة: [وَمَا قَدَرُواْ ٱلله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ ٱلله عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء...] (100).

وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في أصحابه وتلا هذه الآية، ثم قال: يمجّد الله نفسه، يقول: أنا الملك، أنا القدوس... وأخذ بترديد أسماء الله الحسنى، فنظر الصحابة إلى المنبر، وكان يرجف برسول الله من وقع عظمة الله تعالى. إن الجماد والخشب قد اهتزا لجلال الله تعالى، بينما هناك قلوب لم تتحرك من خشيته أو لجلاله، فتواجه الآية في نصفها الثاني هؤلاء: [قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِى جَاء بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ... قُلِ ٱلله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ] (91).

سبب التسمية: توحيد في القصد والعمل
ويبقى سؤال أخير وهو: لماذا سميّت هذه السورة بالأنعام؟
إن الأنعام هي المواشي التي يقوم الناس برعيها ويأكلون لحمها، ولكن ما العلاقة بين الأنعام وبين سورة تتحدث عن توحيد الله تعالى.

إن العلاقة بينهما وثيقة جداً، فإن السورة تناولت موضوع توحيد الله تعالى، وهي تحذر الناس من الاعتقاد بأنّ التوحيد يكون بأنْ يقول المرء في نفسه أنا أوحّد الله وواقع حياته لا يشهد بذلك، بل ينبغي أن يوحّد الله اعتقاداً وتطبيقاً.

فكثير من الناس يوحّدون الله اعتقاداً فهو يجزم بهذا الأمر ولا مجال للنقاش أو الشك في توحيده لله عزّ وجلْ ولكن إذا تأملنا واقع حياته، وهل يطبق شرع الله تعالى في كل تصرفاته فإننا سنجد أنّ الأمر مختلف.

وسبب تسمية السورة بالأنعام أنّ العرب كانوا ينظرون للأنعام على أنها ثروتهم الأساسية وعصب حياتهم، فتعاملوا معها على أنها تخصهم ولا علاقة لله تعالى بها - بزعمهم - يقول تعالى: [وَجَعَلُواْ لله مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلاْنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى ٱلله وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ] (136).

وبعد ذلك يقول [وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَـٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَـٰمٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَـٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱلله عَلَيْهَا ٱفْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ & وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلانْعَـٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوٰجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ] (138 - 139).

فهذا تحذير من توحيد الله اعتقاداً فقط دون أن يكون لهذا التوحيد أثر في التطبيق.. فإياكم ثم إياكم أن توحّدوا الله تعالى في الاعتقاد وتخالفوا ذلك في التطبيق. لهذا اختار ربنا نوعاً من أخطاء التطبيق وسمى به السورة حتى يخاف المرء ويسأل نفسه عن التطبيق كلما قرأ آيات التوحيد وعدم الشرك.

طريق السلامة
ولأن التوحيد يشمل الاعتقاد والتطبيق جاء ختام السورة
[قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لله رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ & لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ & قُلْ أَغَيْرَ ٱلله أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا] (162 - 164).

فمن كانت لـه هذه القدرة أحق بأن يكون لـه التوحيد الخالص في كل مظاهر حياتنا الفكرية والروحية والعملية.
هذه المعاني كلها تلخصت في ثلاث آيات محورية في المواجهة على مدار السورة:

[قُلْ أَغَيْرَ ٱلله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ] (14).
[أَفَغَيْرَ ٱلله أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلاً...] (114).
[قُلْ أَغَيْرَ ٱلله أَبْغِى رَبّا...] (164).

فهذه الآيات الثلاث ركزت على محاور التوحيد الثلاثة وهي التوحيد في الربوية وفي المحبة وفي الاحتكام لشرع الله تعالى.

ختام السورة: الاستخلاف
بعدما أكد الله تعالى من خلال آيات السورة ملكه للأرض وإبداعه لها وتصرفه فيها، أعطانا الأرض واستخلفنا عليها: [وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلاْرْضِ] (165).

وهنا لفتة لطيفة في الربط بين هدف سورة الأنعام وهدف سورة البقرة (المسؤولية عن الأرض). كما أنّ الختام هنا يمهّد لسورة الأعراف التي تناولت موضوع الصراع في الأرض بين الحق والباطل:

[... وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَـٰكُمْ] (165).

وانظر هنا لعلاقة السور الرائعة مع بعضها:
وكأنّ السور الثلاث توجه رسالة موحدة: يا مسلمون، بعد أن فهمتم أهمية توحيد الله في التطبيق كما في الاعتقاد (سورة الأنعام)، فإن الله قد أعطاكم هذه الأرض لتطبّقوا شرعه عملياً، فأنتم يا أمة محمد مسؤولون عنها (سورة البقرة) فأين أنتم في الصراع على الاستخلاف بين الحق والباطل (سورة الأعراف) ؟