سورة البقرة

 


تعريف بالسورة
سورة البقرة (مدنية) وهي أول ما نزل بالمدينة بعد الهجرة وبقيت تنزل على مدى المرحلة المدنية كلها تقريباً أي أنّها رافقت تكوين المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية من بدايتهما.هي أطول سورة في القرآن وعدد آياتها 286.

كيف تخاف وهي معك؟
ورد في فضل سورة البقرة حديثان: الحديث الأول رواه الإمام مسلم: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما» تأملوا أيها الأحبة كيف أنّ سورتي البقرة وآل عمران تحاجان - أي تدافعان - عن صاحبهما (الذي حفظهما وعمل بهما وكان يقرأهما كثيراً).

وفي رواية «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلّتان»... إنّ حرَّ يوم القيامة شديد، تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق، فتأتي سورة البقرة على من حفظها أو عمل بها أو كان كثير القراءة لها لتظلل عليه... فتأمل قيمة سورة البقرة!..

الحديث الثاني: رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في سورة البقرة يقول «البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان». وفي رواية «..لا يدخله الشيطان ثلاثة أيام». وبالتالي فإنَّ الكثير من الناس يحرصون على قراءة سورة البقرة في البيت لمنع الشيطان من دخوله.

هدف السورة: أنت مسؤول عن الأرض.
الحديث عن هدف السورة يساعدنا على فهم الآيات بتسلسل واكتشاف الروابط بين موضوعاتها المختلفة. واللطيف أن بعض العلماء قال بأن تسمية أقسام القرآن بالسور، لأن كل واحدة منها تشتمل على موضوع واحد، وآيات السورة هي كالسور أو السياج الذي يحيط بهدف السورة ويدور حوله ويخدمه. إذاً لكل سورة محور وهدف واحد، فما هو هدف سورة البقرة؟ وما هو المحور الذي يجمع 286 آية على مدى جزئين ونصف من القرآن؟

إن هدف السورة هو الإستخلاف في الأرض، وهذا يعني ببساطة «يا مسلمين أنتم مسؤولون عن الأرض». يا من سوف يقرأ سورة البقرة إعلم أنّك مسؤول عن الأرض وهذا منهجك: سورة البقرة..

وكأنّ القرآن يخاطبنا قائلاً اعلموا أنّ الأرض هذه ملك لله، والله هو مالك الكون خلقكم وملَّككم الأرض لكي تُديروها وفقاً لمنهج الله...

السعيد من وعظ بغيره
إنَّ الله تعالى خلال مسيرة التاريخ قد استخلف أمماً كثيرة على الأرض، فمنهم من نجح ومنهم من فشل وقد حان الدور في نهاية المطاف على هذه الأمة، والله تعالى لا يحابي أحد حتى ولو كانت أمة محمَّد صلى الله علي وسلم. فلو فشلت في المسؤولية فإنّها ستستبدل كما استبدلت أمم من قبلها..
 

الجزء الأول من القران:
هذا الجزء مكون من ثمانية أرباع:
- ربع الحزب الأول: يتكلم عن أصناف الناس وكأننا نستعرض الأصناف الموجودة على هذه الأرض والتي سيكلف أحدها بالإستخلاف.
- الربع الثاني: أول تجربة إستخلاف على الأرض: آدم عليه السلام.
- الربع الثالث إلى السابع: أمة استخلفها الله على هذه الأرض لمدة طويلة وفشلت في المهمة، بنو إسرائيل.
- الربع الثامن والأخير: تجربة سيدنا إبراهيم عليه السلام الناجحة في الإستخلاف.

تجربة سيدنا آدم تجربة تمهيدية تعليمية، وكانت المواجهة بين إبليس وسيدنا آدم عليه السلام لإعلان بداية مسؤولية سيدنا آدم وذريته عن الأرض.

ثم بنو إسرائيل: نموذج فاشل، فهم أناس حملوا المسؤولية وفشلوا، وتستمر السورة في ذكر أخطائهم لا لشتمهم ولكن ليقال للأمة التي ستستخلف: تنبهي من الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها الأمة التي قد سبقت في الاستخلاف!

وآخر ربع يضرب الله به المثل بالتجربة الناجحة لشخص جعله الله خليفة في الأرض وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام. ويكون الترتيب هذا منطقياً، فبدأَ بآدم التجربة الأولى وختم بالتجربة الناجحة لرفع المعنويات وبينهم التجربة الفاشلة، للتعلم من الأخطاء السابقة وأخذ الدروس والعبر.

لماذا سميت السورة بالبقرة؟
قد يتساءل البعض لماذا سميت هذه السورة بسورة البقرة؟

قد يجيب البعض بأنها سميت كذلك لأنّ قصة البقرة جاءت في هذه السورة، مع العلم بأنَّ هذه السورة قد جاء بها قصص كثيرة فلماذا سميت السورة باسم هذه القصة دون غيرها؟

إنّ قصة البقرة قد جسّدت الأخطاء الأساسية الكبرى لبني إسرائيل، فسميت السورة باسمها لكي يتذكر المسلم المسؤول عن الأرض هذه الأخطاء ويتجنبها.

يشتمل الجزء الأول على ثلاث تجارب :
1- أوّل تجربة استخلاف: آدم عليه السلام
وبعد ذلك تبدأ السورة بسرد قصة آدم عليه السلام وتجد أمامك آية محورية في بداية القسم الأول الذي يلي المقدمة :[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً](30)

فأنت أيها الإنسان مسؤول عن الأرض وقد كان أبوك آدم عليه السلام مسؤولاً عنها أيضاً فالأرض ليست مسؤولية البعيدين عن الله ولا الناكرين لمنهجه. فالأصل أنَّ المسؤول عنها كان أبو البشر آدم عليه السلام. ولاحظ أنَّ رد الملائكة وسؤالهم ليس اعتراضاً على حكم الله (والعياذ بالله) لكنه خوفهم من الإستبدال وبيانهم أنهم لم يفعلوا ما يغضب الله، فكل أوقاتهم تسبيح وعبادة لكن الله قال لهم: [إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].

2- تجربة بني إسرائيل
تبدأ تجربة بني إسرائيل بالآية 40 من سورة البقرة لتبين فشلهم في امتحان مسؤوليتهم عن الأرض.

نماذج نعم الله تعالى على بني إسرائيل:
وبعد هذه الآية يبدأ الله تبارك وتعالى بتعداد نماذج من هذه النعم فيقول لهم في الآية 50: [وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَـٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ] ويقول لهم في الآية 52 [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ويقول أيضاً في الآية 57 [وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ].
آيات متتالية تتحدث عن النعم ثم تنتقل للحديث عن أخطاء الأمة السابقة، وكل هذا الكلام لكي ننتبه ونتجنب الوقوع في أخطائهم.

أخطاء الأمة السابقة:
وتبدأ الآيات التي تصف أخطاء بني إسرائيل [وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱلله جَهْرَةً] (55)

لأنهم أمة مادية للغاية وكأنَّ الخطأ الجسيم الذي قد تقع به أي أمة ويكون سبباً في استبدالها هو طغيان المادية فيهاً، ومعنى المادية أنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا أمراً ملموساً. وهنا نتذكر أول صفة للمتقين في بداية السورة [ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ] (2).

وتمضي الآيات الكثيرة في الحديث عن بني إسرائيل والموبقات التي ارتكبوها كقتل الأنبياء بغير الحق،وعصيانهم وكفرهم بآيات الله، واعتداء أصحاب السبت وتحايلهم على آيات الله، إلى أن تصل بنا الآيات إلى القصة المحورية: قصة البقرة.

3- التجربة الناجحة: إبراهيم عليه السلام
ونصل إلى الربع الأخير من الجزء الأول والذي يتحدث عن تجربة إبراهيم وهي تجربة ناجحة جاءت في نهاية الجزء للتحفيز على النجاح في امتحان الاستخلاف: [وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا] (124). ولاحظ أن سيدنا إبراهيم لم ينجح في الامتحان نجاحا عاديا بل [أَتَمَّهُنَّ] أي قام بهنّ خير قيام فلما أتمّ هذه الابتلاءات (الرمي في النار، الهجرات وترك الولد في الصحراء، ذبح الولد..). أخبره الله انه سيجعله للناس إماماً (الاستخلاف) لأنه قد اطاع الله تعالى فقال إبراهيم عليه السلام [قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ] (124)

فقوله لا ينال عهدي الظالمين درس هام لنا بأن الله تعالى لا يحابي أحداً حتى أمة محمد والاستخلاف مقرون بالطاعة لا بالنسب وبهذا المعنى يدعو سيدنا إبراهيم أن يستخلف واحداً من ذريته [رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً] (129).

ومن المفيد هنا ملاحظة بدايات القصص الثلاث: فكلها بدأت بآيات تبيّن مجال الاستخلاف وكلها اشتملت على اختبارات في طاعة الله تعالى:

قصة آدم: أول آية في القصة [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً] (30) (اختبار آدم في مسألة عدم الأكل من الشجرة).

قصة بني اسرائيل: أول آية في القصة: [يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِى ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ] (47) (الاختبار في تنفيذ أوامر الله المختلفة وشكر النعم).

قصة إبراهيم: أول آية في القصة وهي الآية 124: [إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا][وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ] (تحدي الاب - تحدي القوم - الرمي في النار – الهجرة - ترك الولد والزوجة في الصحراء - الذبح).

ونلاحظ في ختام الجزء الأول وبعد أن قصّ علينا القصص الثلاث تأتي الآية [قُولُواْ ءامَنَّا بِٱلله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلاسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (136).

فهذه الآية تفصيل للذين أنعم الله عليهم المذكورين في سورة الفاتحة [ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ & صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ].

من فضلك اقرأ هذا الجزء بنفسية من يريد أن يكون مسؤولاً عن الأرض ليستخلفه الله، وأن يستفيد من أخطاء غيره، وأن يحذر المادية والجدل والتحايل على شرع الله ويتحرى طاعته.
 

الجزء الثاني من القرآن:
يحدد الجزء الثاني من سورة البقرة الأوامر والنواهي التي لا بد للأمة من الأخذ بها حتى تستخلف. وكل هذه الأوامر والنواهي - كما سيتبين معنا - متعلقة بثلاثة أمور:
1. طاعة الله
2. تميّز الأمة
3. تقوى الله
إن من سيستخلف على الأرض لا بد له من منهج ليسير عليه، هذا المنهج هو الجزء الثاني من سورة البقرة.

تغيّرالقبلة: إختبار للطاعة وأمر بالتميّز
يبدأ الجزء الثاني بالتعقيب على الحادثة التي أمر الله بها المسلمين بتغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرّفة، وتشكيك اليهود في المدينة بهذا الأمر: [سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاء مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّـٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا...] (142).

فبعد أن أخبرنا عن أحوال الأمم السابقة وأراد رسم المنهج لهذه الأمة، كانت أول مقومات المنهج هي الأمر بالطاعة. فالله تعالى لم يقصّ علينا القصص إلا لحكمة، وهي ترسيخ مفهوم الطاعة عند الأمة المسؤولة عن الأرض، فجاءت حادثة تغيير القبلة كإمتحان عملي.

ولذلك كانت الآية 143 واضحة جداً في بيان هذا المعنى [وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ] (143).

وقد يظن البعض أن المسألة كانت سهلة لكن الواقع غير ذلك، فالعرب كانت تقدّس الكعبة من عهد سيدنا إبراهيم، فجعل الله قبلة المسلمين لبيت المقدس، ثم جاء الأمر بالإتجاه للكعبة مرة ثانية، طاعة لله.

تمييز الأمة حتى في مصطلحاتها
ولكن الربع هذا ينبّه إلى هدف آخر غير إختبار الطاعة. فكما سبق في الجزء الأول التنبيه إلى أهمية التميز عن الأمم الأخرى في المصطلحات: [يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرْنَا] (104) ففي هذه الآية أيضاً أمر بالتميز عن الآخرين في إتجاه القبلة..

فاليهود كانوا يصلّون باتجاه بيت المقدس، فأمر المسلمون بمخالفتهم والتوجّه للكعبة. وكأن الرسالة هنا: كيف تستخلف أمة على هذه الأرض وهي ليست متميّزة عن غيرها؟ كيف يكون التابع والمقلّد مسؤولاً عن الأرض؟... فكان لا بد قبل الاتيان بأي أمر أو نهي في المنهج أن يأتي الأمر بالتميز عن طريق تغيير اتجاه القبلة! ليتميّز المسلمون فلا يشعروا بالتقليد والتبعية للأمم الأخرى.

وسطية التميز
أما الربع الثاني من هذا الجزء فيبدأ بالآية 128 والتي يقول الله تعالى فيها [إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱلله فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا] (158) بعض الناس يفهم هذه الآية أن لابأس بالطواف وأن الطواف إختياري. لكن لكي نفهم معنى الآية لا بد من معرفة سبب نزولها، فالواقع أن الصحابة عندما سمعوا خطاب القرآن يأمرهم بالتمييز (سواء بتغيير المصطلحات أو بتغيير إتجاه القبلة)، ووجدوا أن المشركين يطوفون بين الصفا والمروة (ويضعون صنمين على جبلي الصفا والمروة (آساف ونائلة) وكانوا يسعون بينهما)، عندها شعر الصحابة بحرج من السعي بين الصفا والمروة وأنه ينافي التميز الذي أمروا به، فجاءت الآية لتخبرهم أن ليس كل ما يفعله الكفار خطأ، فإن أصل السعي بين الصفا والمروة أمر رباني واتباع لسيدنا إبراهيم. وبهذا تضح الرسالة: لا بد من التوازن في التميز لأن هذه الأمة أمة وسط فليس كل ما يفعله الكفار مرفوض...

الإسلام والإصلاح الشامل
في الربع الثالث تبدأ سلسلة من الأوامر الشاملة لكل نواحي الإصلاح في المجتمع.

فيبدأ بقول لله تعالى: [لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِٱلله وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ  وَٱلْمَلَـئِكَةِ وَٱلْكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِيّينَ وَءاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبّهِ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيتـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّائِلِينَ وَفِي ٱلرّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـٰهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَاء وٱلضَّرَّاء وَحِينَ ٱلْبَأْسِ...](177)

يقول العلماء أن هذه الآية شاملة للإسلام، فقد شملت العقائد (الإيمان بالله والملائكة والكتاب) والعبادات (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) والمعاملات (الوفاء بالعهد) والأخلاق.

لاحظ معي التدرج الرائع الذي جاءت به هذه السورة:
1. تغيير القبلة (لتحقيق التميز) [فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ] (144).
2. التوازن في التميز [فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما] (158). يقصد الصفا والمروة.
3. الاتجاه ليس كل شيء: [لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ] (177).

فبعد ان رسخ الله تعالى لدى الصحابة الطاعة والتميز في الربع الأول، بيّن لهم أن المسألة ليست مسألة إتجاه وإنما هي قضية إصلاح شاملة. فحين جاء الأمر بالتوجه للكعبة كان ذلك فقط لاختبار الطاعة والتميز، بينما الأصل هو عمل البر بكل أشكاله التي وردت في الآية 177.

مفردات الإصلاح الشامل
ومن أول الربع الثالث في الجزء الثاني تبدأ الأوامر والنواهي للأمة لترسم شمول المنهج:
- تشريع جنائي: [يـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى] (178). وبعدها يأتي قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي ٱلالْبَـٰبِ] (179).
- مواريث: [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوٰلِدَيْنِ وَٱلاْقْرَبِينَ] (180)
وبعد هذا
- تشريع تعبدي: [يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]..


الجزء
الثالث من القرآن :


آية الكرسي: قدرة وعظمة الله
وتصل الآيات إلى أعظم آية في القرآن: آية الكرسي (255) وهي أروع كلام عن الله وصفاته عرفته البشرية في تاريخها.
[ٱلله لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ] (255)

واللطيف أن بعد هذه الآية مباشرة يأتي قوله تعالى في الآية (256) [لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ...] وسبب هذا أن الحجة قد أقيمت على البشر بآية الكرسي فمن آثر الكفر بعدها فلا تكرهوه على الإيمان [قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ].

وسبب ورود آية الكرسي في وسط الكلام عن المنهج هو أننا أثناء تطبيق هذا المنهج نحتاج إلى ما يثبتنا ويشعرنا بأن هذا المنهج من الله تعالى، وأن الله ولي من يطبق هذا المنهج [ٱلله وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ].

دلائل وبراهين
ويأتي بعد آية الكرسي ثلاث قصص تعرض نماذج حياتية لتؤكد آية الكرسي
- قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع النمرود [إِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرٰهِيمُ فَإِنَّ ٱلله يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ] 258).
- وقصة عزير [أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ... ثُمَّ بَعَثَهُ...] (259).
- وقصة سيدنا إبراهيم وهو يقول [رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ...] (260).

فأمره الله تعالى أن يأخذ عدداً من الطيور ويقطّعها ثم يطرقها على رؤوس الجبال ثم يدعوها، فإذا بالريش والدم يعود كما كانوا قبل تقطيعهم، [وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱلله عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (260).

فهذه القصص تؤكد قدرة الله على الإحياء والإماته [ٱلله لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ] (255) جاءت بعد كل آيات المنهج لتقوية إيمان المسلم ويقينه بالله فتكون عوناً له على تحمل تبعات المنهج الثقيل.

النظام المالي والاقتصادي
وتظهر الآيات آخر ملامح المنهج وهو النظام المالي والاقتصادي في الإسلام، والذي عنوانه: الإسلام منهج تنموي وليس منهج ربوي، وتأتي الآيات لتحذر من الربا: [يَمْحَقُ ٱلله ٱلْرّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ وَٱلله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] (276).

[يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱلله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ & فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ٱلله وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ](278 - 279).

حتى تأتي آية المداينة (وهي أطول آية في القرأن) لتوضح معالم المنهج فأكثر في قضايا الديون وإثباتها جاءت لتفيد التثبت في المعاملات [إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ] (282) بعد ذكر قصة إبراهيم في التثبت في العقيدة [وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى] (260) لتوحي هاتان الآيتان في داخلك أن التثبت أسلوب المسلم في حياته في كل نواحيها. والملاحظ أن آيات الربا جاءت بين آيات الإنفاق والتنمية لتوضح أن الإسلام لا يحرم شيئاً إلا ويأتي بالبديل الأصلح.

سورة البقرة: إشارة الإمارة
بعد أن استعرضنا سورة البقرة وشموليتها لأحكام الإسلام نفهم لماذا كان النبي يولي على القوم من يحفظ سورة البقرة لأنه بذلك قد جمع معالم المنهج. هذا المنهج الشامل الذي هو الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، نجده عقيدة في آية الكرسي وعبادة في أحكام الصيام والحج ومعاملات في الإنفاق وتوثيق الديون وتحريم الربا وأحكام القتال، يغلفها جميعها محاور ثلاثة الطاعة، التميز بالوسطية، التقوى.

الختام: سمعنا وأطعنا
تختم سورة البقرة بآيتين هما كنزٌ من تحت العرش يمدح الله بهما المؤمنين: [وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ] (285).

فبنو إسرائيل قالوا [سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا] (93) أما أمة الإسلام فليكن شعارنا [سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] لنبقى مسؤولين عن الأرض. ويأتي بعدها الدعاء [لاَ يُكَلّفُ ٱلله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ](286).

قد يخطئ الإنسان في حياته أثناء قيامه بهذا المنهج وقد يضعف فالصراط المستقيم هو هداية من الله، لذلك يحتاج المسلم إلى العون الرباني بأن يدعو بالعفو والغفران والرحمة. فإذا قام المسلم بقتال من أراد محاربة المنهج وأهله فهو يسأل الله النصر على القوم الكافرين، ولقد إستجاب الله تعالى لهذه الدعوات بقوله (قد فعلت).