سورة النور

 


سورة النور (مدنية)، نزلت بعد سورة الحشر، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة المؤمنون، وعدد آياتها 64 آية.

منازل من نور
سورة النور هي سورة الآداب الاجتماعية، إنها سورة تعنى بشؤون الناس داخل بيوتهم، إنها تعنى بكيفية الحفاظ على أدب العلاقات بين أفراد المجتمع، وكيف نصل إلى حالة من الانسجام والفضيلة في مجتمعنا، وكيف ننقيه من الفساد والرذيلة.

ألسنة الفتنة
لقد نزلت سورة النور في مناسبة ما أشاعه المنافقون حول السيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، واتهامهم إيّاها بالزنا وهي المبرأة من فوق سبع سماوات. وما جرى في هذه الحادثة هو أن السيدة عائشة خرجت مع النبي r في غزوة المصطلق، فتوقف الجيش للراحة. ففقدت السيدة عائشة عقدها، وفيما كانت تبحث عنه، جاء الرجال وحملوا الهودج الذي كانت فيه دون أن يحسوا بعدم وجودها فيه لصغر حجمها ووزنها... ولما عادت السيدة عائشة وجدت أن الجيش قد سار وأصبحت وحيدة في الصحراء...

وكان من عادة النبي صلى الله عله وسلم أن يبقي رجلاً خلف الجيش، فإذا ما تأخر أحد عن الجيش يرشده. فجاء صفوان بن المعطل الذي كان يسير متأخراً عن الجيش وهي وحيدة فوضعها على الناقة، ولم يكلمها ولم يحدثها ولم
ينظر إليها إلى أن دخل إليها المدينة... فاستغل المنافقون هذا الأمر وبدأوا بإشاعة الفتنة وإشاعة الأمر بأن الفاحشة - والعياذ بالله - قد حصلت بين السيدة عائشة وصفوان بن المعطل... وبدأ المجتمع يلوك هذا الكلام الباطل، ووقع بعض المؤمنين في هذا الخطأ، وصاروا يقولون: لا يمكن أن يوجد دخان بدون نار. واختلفت أحوال المسلمين حول هذا الأمر، فمنهم من كان حائراً ومنهم من لم يصدق الكلام إطلاقاً، ومنهم من ظن وقوع الفاحشة... وانقطع الوحي مدة شهر كامل... وكان ذلك اختباراً للمجتمع الإسلامي بأسره...

براءة ربانية
وظل الوحي محبوساً عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخرج المجتمع ما عنده، وكان اختباراً صعباً، حتى نزلت آيات سورة النور لتعلن براءة السيدة عائشة رضي الله عنها من فوق سبع سماوات:

[إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاءوا بِٱلإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإثْمِ وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (11)...

فهذه الآية تعلن بمنتهى الصراحة تبرئة السيدة عائشة، وأن ما حصل إنما هو إفك أي كذب شديد وافتراء شديد لا برهان عليه، وكل من ينشر مثل هذه الأكاذيب في المجتمع (وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين) لهم عذاب عظيم...

لا تحسبوه شراً لكم
والآية السابقة تعلق على حادثة الإفك وانتشارها بين المسلمين بشكل عجيب: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...] (11)، فأين الخير في ذلك؟

إن المجتمع الإسلامي في المدينة كله سيتعلم من هذه الحادثة، ونحن أيضاً سنتعلم من هذه الحادثة، وسلسلة الأحكام والآداب الاجتماعية التي رافقت نزول السورة ستكون خيراً للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مصداقاً لقوله تعالى [بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ].

ظنوا بأنفسهم خيراً
وأول تعقيب بعد حادثة الإفك كان قوله تعالى: [لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ] (12). آية رائعة تعلمنا كيفية التصرف عند إشاعة الفتن والكلام في أعراض الناس. هذه الآية نزلت في أبي أيوب الأنصاري حين سأل زوجته: لو كنت مكان عائشة أكنت فعلت ما قيل، فقالت لا، فقال عائشة خير منك. فقالت له: لو كنت مكان صفوان بن المعطل أكنت فعلت ما قيل، فقال لا، فقالت صفوان خير منك... فنزلت الآية فيهم لتمتدح فعلهم الرائع وليكونوا نموذجاً وقدوة لكل المسلمين. ومن لطف الآية أنها قالت [ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً] مع أنهم "ظنوا بإخوانهم خيراً"، كأنها تقول للمسلمين: ظنوا بإخوانكم كما تظنون بأنفسكم، فأنتم مؤمنون كإخوانكم، واتركوا المنافقين يظنون فيهم كما يشاؤون. وكأن الآيات توحي إلينا أن طعنك أيها المسلم في أعراض الناس هو طعن في عرضك، وأن دفاعك عن عرض أخيك وحسن ظنك فيه هو دفاع عن نفسك.

إياكم والأعراض
فاحذر أيها المسلم من الخوض في أعراض الناس، وخاصة النساء. واحذر قبول وساوس الشيطان في أعراضهم، واحذر الترويج لما يشاع في الجرائد من فضائح وإشاعات فتسيء الظن بالناس ظلماً وتقع في كبيرة من الكبائر التي حذرت منها السورة: قذف المحصنات.

فالذين أشاعوا الإفك من المنافقين، والذين قبلوه من المؤمنين لم يأتوا بشهداء أو بينة:
[لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَـئِكَ عِندَ ٱلله هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ] (13).

لكن فضل الله تعالى ورحمته سبقا غضبه [وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱلله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (14). وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم.

ثم تعود الآيات إلى وصف خطورة الموضوع:
[إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوٰهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ٱلله عَظِيمٌ & وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهْتَـٰنٌ عَظِيمٌ & يَعِظُكُمُ ٱلله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ] (15 – 17).

كل هذه الآيات كانت تعليقاً على حادثة الإفك، فكانت تعليماً للصحابة وللأمة من بعدهم أن لا يخوضوا في أعراض النساء، وقد يقع به بعض الشباب بكلمة أو إشارة أو إيماءة، وقد يقولونه من باب المزاح دون قصد الإيذاء، لكن الآيات تحذرهم بشدة: [وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ٱلله عَظِيمٌ] (15)

وتنهاهم أن يعودوا لمثله [يَعِظُكُمُ ٱلله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ] (17).

وهكذا نرى أن قصة الإفك حملت من الخير لمجتمع المدينة ولكل المجتمعات الإسلامية الخير الكثير، فتعالوا معاً إخواني نستعرض آيات السورة ونفهم سوياً مراد ربنا من هذه السورة.

بداية شديدة لجريمة شديدة
فكيف بدأت السورة؟ لقد بدأت بداية غير معهودة فيما قبلها من السور القرآنية: [سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا...] (1). وهي بداية شديدة، ولكن كل سور القرآن أنزلت وفرضت، فلماذا بدأت السورة بتلك البداية؟ وكأن هذه السورة تريد أن تضع سياجاً شديداً لحماية المجتمع، فكان لا بد لهذا السياج من مقدّمة قوية للفت الأنظار إلى أهمية الأحكام القادمة.

[سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَـٰتٍ بَيّنَـٰتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ].

وسائل الوقاية
وسبب هذه البداية الشديدة، أن السورة وضعت ضمانات قوية لعدم وقوع الزنى، فلو وقع أحدٌ في هذه الجريمة بعد كل هذه الضمانات والضوابط التي ذكرت في السورة، فمعنى ذلك أن فطرته قد شذت شذوذاً شديداً، فلا بد له من عقوبة رادعة.

سبع خطوات وضوابط تضمنتها السورة، هي كالسياج الذي يحفظ المسلم، تحمي المجتمع وأهله من الوقوع في الفاحشة، وتحافظ على نقاوة المجتمع وطهارته وعفته... فتقرأ فيها آداب الاستئذان وتزويج الشباب ومنع البغاء وغض البصر والحجاب وعدم الخوض في الأعراض ظلماً بلا شهود، ثم يأتي تطبيق الحد في مكانه المناسب من هذه الضوابط ليكون رحمة للمجتمع وردعاً للشواذ الجامحين في شهوتهم وإفسادهم. فما هي هذه الشروط؟

آداب تنور المجتمع
1. الاستئذان:
فلا يدخل رجل على امرأة بمفردها في بيتها، وخاصة لو كان أخاً للزوج أو قريبه. ولا يخلو رجل بامرأة يحل له الزواج منها، ولا يدخل الأولاد على أبويهم في أي وقت يشاؤون بلا استئذان وكذلك الخدم. يقول تعالى:

[يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ & فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَٱلله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] (27 – 28).

وبعد ذلك يقول الله تعالى [يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ] (58) هذه الآيات هي قواعد المرور داخل البيت المسلم، للأطفال والخدم. اسمع معي هذه القواعد والأنظمة:

[مّن قَبْلِ صَـلَوٰةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَوٰةِ ٱلْعِشَاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ...] (58) وهي الأوقات التي يتخفف فيها المسلم من ثيابه لينام أو ليرتدي غيرها. ثم تقول الآيات:

[وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱلله لَكُمْ ءايَـٰتِهِ وَٱلله عَلِيمٌ حَكِيمٌ] (58 – 59)...

ما هذا الدين العظيم، الذي يدخل مع المسلم إلى داخل بيته، لينظم له حركة البيت بما يضمن له السعادة والوقاية من الآفات والشرور...!!

2.غض البصر:
وللحفاظ على المجتمع مما يؤدي إلى الفاحشة، تجد قوله تعالى:
[قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱلله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] (30).

والأمر بغض البصر والعفة ليس فقط للرجال والشباب، لكنه موجه أيضاً للنساء بنفس الكلمات والأوامر:
[وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ...] (31).

3. تزويج الشباب:
فلا يمكن إقامة حد الزنى إذا كان الشباب غير قادرين على الزواج. ولذلك كان من أهم الضمانات التي قدمتها السورة الكريمة: (الحث على تزويج الشباب): [وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱلله مِن فَضْلِهِ وَٱلله وَاسِعٌ عَلِيمٌ] (32).

وذلك لسد طريق الفواحش أمام الشباب الذين لا يستطيعون الزواج لضيق ذات اليد، فتدعو الآيات إلى تزويجهم والتوكل على الله أنه سيغنيهم من فضله.

4. منع البغاء:
كما شددت الآيات على أولياء الأمور (وعلى المجتمعات) الذين يدفعون فتياتهم إلى الزنى ليربحوا من وراءها [وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱلله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (33).

فالسورة بأحكامها الشديدة، تحمي المرأة، وتحذر من المتاجرة بجسدها وعرضها، لأن في ذلك هضم لحقوقها، وإفساد وتمييع للمجتمع كله...

5. الحجاب:
وبعد الأمر بالاستئذان وغض البصر وتزويج الشباب ومنع البغاء، كان لا بد من الأمر بالحجاب، كأحد أهم الوسائل التي تمنع وقوع الشباب العزاب والمتزوجين في الفاحشة، نتيجة ما يرونه من مشاهد مثيرة للغرائز في الشارع أو على صفحات الجرائد أو في الفضائيات ووسائل الإعلام. فالحجاب من جهة، وغض الأبصار من جهة أخرى، هما ضمانة أكيدة لحماية المجتمع وطهارته. اسمع معي الآيات:
[وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ...] (31).

فالآية أوضحت - من خلال تكرار عبارة [وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] مرتين في آية واحدة - أن المرأة كلها زينة، فلا يجوز أن تبدي من زينتها إلا ما ظهر منها، وهما الوجه والكفين كما بيّن النبي.

والآيات لم تأمر بالحجاب فحسب بل فصّلته تفصيلاً، فقد وصفت بشكل دقيق شكل الحجاب وشروطه الشرعية: [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ] أي لا بد لغطاء الرأس أن ينزل تحت فتحة الصدر والرقبة. كما أنها حددت للمرأة المسلمة لمن تكشف زينتها:
[وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ..] (31).

فكيف يأتي بعد كل هذا التفصيل، من يقول أن الحجاب في الإسلام ليس فرضاً؟ إن الآيات في هذه السورة وفي سورة الأحزاب فصلت فرضية الحجاب وشكله بشكل غير قابل للنقاش.

6. منع إشاعة الفواحش:
لقد منع الإسلام من إشاعة الفاحشة في المجتمع... فقال تعالى [إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةِ وَٱلله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (19).

فإلى كل وسائل الإعلام التي تنشر الفاحشة والرذيلة والعري في المجتمع، وإلى كل من يروّج لأخبار الفضائح ويخوض في الأعراض، اسمع هذه الآيات واتق الله في شباب الأمة. اسمع قوله تعالى:
[إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْغَـٰفِلَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنـٰتِ لُعِنُواْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ & يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ] (23 – 24)..

لا بد من أربعة شهود
وهكذا نرى أن الإسلام أمر بتطبيق كل هذه الضوابط، ليضمن خلو المجتمع من كل ما قد يسبب وقوع الفاحشة... فإذا كان الزواج ميسّراً، والحجاب منتشراً، والتزم الناس بغض البصر واختفت الإعلانات الرذيلة ومنع البغاء، ومع هذا كله، زنى شخص ما، فهل يكون مستحقاً للحد؟... والجواب طبعاً: لا، لأنه لا يكون مستحقاً للحد إلا إن شهد عليه أربعة شهداء، ولا يطبّق عليه حد الرجم أو الجلد إلا إذا شهد عليه أربعة شهداء عدول (أي أمناء موثوق في شهادتهم ومعروفون بخلقهم في المجتمع) أو اعترف هو بنفسه. اسمع قوله تعالى:

[وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ & إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱلله غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (4 – 5)..

لهذا استحق العقوبة
ولما طلبت الآيات شرط الأربعة شهود لإقامة الحد، فإنها قد وضعت شرطاً صعباً أمام تطبيق حد الزنى، وذلك من رحمة الله بعباده... فهذا الحد لا يطبّق إلا على من تخطى جميع الضوابط التي وضعتها السورة وأقدم على فعل الفاحشة، ليس وليس ذلك وحسب، بل إنه فعل ذلك أمام أربعة أشخاص، مما يعني أنه كان مجاهراً بالزنى!... ومن يفعل ذلك لا يستحق الرأفة من المجتمع، ولا بد من القسوة عليه، ومن هنا نفهم شدة السورة في بدايتها: [وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱلله] لأنه يسعى إلى إفساد المجتمع على نحو خطير.

ومن روعة الإسلام وعظمته أنه لو كان الشهود ثلاثة، أو لو كانوا أربعة وتراجع أحدهم عن شهادته، فإن هؤلاء الثلاثة هم الذين يجلدون، لأن الستر والحفاظ على سمعة الناس هو الأولى وهو الأصل في الإسلام.

الإسلام لا يتعطش لإقامة الحدود
إن ما سبق يدل على أن الإسلام ليس متعطشاً لإقامة الحدود، ولنا في أصحاب رسول الله أسوة حسنة في فهمهم لتطبيق أحكام الإسلام: فسيدنا عمر بن الخطاب شاهد - عندما كان أميراً للمؤمنين - حادثة زنى، دون أن يكون معه شهود. فرجع إلى المسلمين غاضباً وقال: سمعت بأذني ورأيت بعيني، وسأطبّق عليهم الحد. فقال له علي بن أبي طالب: "يا أمير المؤمنين أمعك شهداء؟!" فقال عمر: "لا ولكني أمير المؤمنين ورأيت وسمعت". فقال علي: "يا أمير المؤمنين تأتي بأربعة شهداء وإلا إن نطقت باسمهما حدٌ في ظهرك"!! فمن ذا الذي يستطيع القول بعد ذلك بأن هذا الدين متعطش للدماء وإقامة الحدود!!...

التوبة
وكل الحدود التي جاءت في أول السورة هي الدواء النهائي فيما لو وضعت جميع الضمانات السابقة لعدم وقوع المجتمع في الفاحشة... فإذا وقع شاب أو فتاة في الفاحشة، وكان البلد لا يطبق حدود الله، أو لو كانت هذه الضوابط غير مكتملة في المجتمع، (كصعوبة الزواج وانتشار الرذيلة وغياب الحجاب في المجتمع) فماذا يفعل من وقع في الزنى والعياذ بالله؟

إن حد الزنى لا يقام عليه أولاً، ولا بد له من أن يتوب إلى الله تعالى فوراً ويستر على نفسه، ولذلك فإننا نرى من روعة هذه السورة أننا نراها تفتح باب التوبة بعد كل مقطع يتحدث عن حدود الله:
[إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ] (5).

[وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱلله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱلله تَوَّابٌ حَكِيمٌ] (10).

[وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱلله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱلله رَءوفٌ رَّحِيمٌ] (20).

[وَتُوبُواْ إِلَى ٱلله جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (31).

فالتوبة هي طريق النجاة للمجتمعات التي لم تكتمل فيها ضمانات منع الفاحشة، أو المجتمعات التي لا تقام فيها الحدود لسبب من الأسباب...

إلى النور
ويبقى سؤال مهم، وهو: لماذا سميت السورة بسورة النور؟ قد يجيب البعض: لأن في هذه السورة قوله تعالى [ٱلله نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ...] (35)...

وهو جواب بديهي، لكن ما علاقة هذه الآية بالآداب الاجتماعية التي حفلت بها السورة؟ ولماذا لم يطلق على السورة اسم سورة الآداب الاجتماعية مثلاً أو أي اسم مماثل؟..

إن في هذا دلالة على أن العمل بهذه التعاليم والأحكام يضيء المجتمع بنورها. فشرع الله هو نور المجتمع، والبديل عن ذلك هو التخبط في الظلام والضلال، كما يحصل في الكثير من المجتمعات في عصرنا الحاضر.

هناك بيوت كثيرة تعيش في ظلمة، وهناك مجتمعات عديدة تفتقد إلى النور لعدم قراءة أهلها لسورة النور، فحين ابتعدت هذه المجتمعات عن شرع الله، شاعت فيها الفاحشة، وكثرت فيها الأمراض والمشاكل... لهذا كله، سميت السورة بسورة النور، لأنها النور الذي يحفظ النفوس وينقيها من الغرائز، ويحفظ الأعراض ويحرسها من ألسنة الناس، ويضيء الطريق إلى الله.

الله نور السماوات والأرض
فما هو مصدر هذا النور؟ إنه الله تبارك وتعالى: [ٱلله نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ...] (35) ونور الله هو شرعه وهدايته...

فأين ينزل هذا النور؟ [فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱلله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ...] (36).

وعلى من ينزل هذا النور... [رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱلله...] (37).

وأما من حاد عن هذا النور: [وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْانُ مَاء..] (39) لأنه لم يمش على نور ربنا سبحانه وتعالى، وآثر التخبط في الظلمات:
[أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـٰتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱلله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ] (40).

أرأيتم ترك النور الرباني؟ أرأيتم كيف أن ترك الحجاب وإشاعة الفضائح يجعلان الأفراد والمجتمعات لا بل البشرية كلها تتخبط في ظلمات الضلال والفواحش؟

مقتضيات النور الرباني
اسمع معي مرة أخرى الآية المحورية في السورة، آية النور:
[ٱلله نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى ٱلله لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ ٱلله ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱلله بِكُلّ شَىْء عَلَيِمٌ] (35).

والمشكاة هي عبارة عن تجويف في الحائط يحيط بالمصباح، ويحافظ عليه. فلكي يبقى النور متوقداً، لا بد له من زجاجة تحيط به وتحافظ عليه. وكأن هذه الآية الرائعة تقول للمؤمنين: نفّذوا شرع الله تعالى، الذي هو نور المجتمع، وحافظوا عليه، واجعلوا قلوبكم كالزجاجة التي تحيط بالنور، لتضمن بقاءه متوهجاً في حياتكم وحياة الناس من حولكم.

ولا بد لهذا النور من فتيل حتى يشعله، هذا الفتيل هو عملك وإيجابيتك أيها المؤمن، فكأن الآيات تقول لك: "أشعل الفتيل حتى تنور المجتمع"، ولذلك كانت بداية السورة شديدة [سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا...] (1)، لأنها تدعو إلى التحرك بإيجابية وإشعال الفتيل الذي ينشر نور الله في الأرض.

آيات مبينات
ومن لطائف القرآن أنه ركّز على استعمال كلمة النور لوصف شرع الله تعالى، فما هي أهم خصائص النور؟ يمكننا أن نلخصها في ثلاث كلمات:
الهداية - البيّنة - الكشف.

فالنور يكشف الحقائق ويبيّنها، ولذلك تكررت لفظة "بينات" و"آيات مبينات" في السورة تسع مرات. فالسورة بدأت بقوله تعالى: [.. وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَـٰتٍ بَيّنَـٰتٍ] (1)، وبعد الحديث عن كل مجموعة من الآداب الاجتماعية يأتي قوله تعالى [وَيُبَيّنُ ٱلله لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ] (18) أو قوله [وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَـٰتٍ مُّبَيّنَـٰتٍ...] (34) لأن هذه الأحكام هي التي ترشد المؤمنين وتبين لهم طريق الحق.

ولذلك كانت السورة التي نزلت فيها تبرئة السيدة عائشة هي سورة النور، لأن النور يكشف الحقائق ويبينها...

ولذلك أيضاً اشترطت السورة وجود أربع شهود لإقامة حد الزنى، لكي يكون هناك بيّنة، هذه البينة هي الكاشفة وهي النور..

من فضلك، اجعل هذه السورة والآداب التي تضمنتها نوراً لك في أسرتك، وحافظ على شرع الله تعالى لتنوّر به مجتمعك، وتحرّك به إلى الناس كلهم لتنشر النور في البشرية كلها.