سورة الصافات

 


سورة الصافات تسلّط الضوء على معنى واحد: استسلم لأوامر الله حتى لو لم تدرك الحكمة منها. لذلك تأتي السورة بمثل رائع: سيدنا إبراهيم، لما طلب منه ذبح ابنه إسماعيل، فتلقى الأمر دون أي تردد أو سؤال عن الحكمة والغاية من هذا الطلب، وكأن السورة تقول لنا: سيأتيكم يا مسلمون عدد من الأوامر التي لن تفهموا الحكمة منها، فاقتدوا بسيدنا إبراهيم في تنفيذه للأوامر الربانية...

استسلام الأب والابن:
وبالعودة لسيدنا إبراهيم، فإننا نرى في قصته استسلاماً كاملاً لله تعالى.

فهو قد ترك قومه وهاجر إلى الغربة في سبيل الله [وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى سَيَهْدِينِ] (99).
ثم تصوّر لنا السورة اشتياقه وحاجته للولد: [رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ] (100).
فاستجاب الله لدعائه [فَبَشَّرْنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِيمٍ] (101).

تخيل فرحة قلبه...! رجل كبير عجوز مهاجر وبعيد عن بلده... تخيّل تعلّقه بهذا الولد، الذي ليس غلاماً عادياً، بل أنه "غلام حليم"... فماذا بعد؟ نرى في الآية (102).

[فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ] لما كبر الولد أمام عيني والده، رأى إبراهيم في منامه رؤيا صعبة [قَالَ يٰبُنَىَّ إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ] ليس أمراً مباشراً من الله أو عن طريق جبريل، بل عن طريق الرؤيا. ومع ذلك لم يتذرع إبراهيم بذلك، لأنه يعلم أن رؤيا الأنبياء حق...

ولم يطلب إبراهيم معرفة الحكمة من هذا الطلب، بل لم يسأل عنها أصلاً، لكنه قال لابنه بكل استسلام: [إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ] وهذا السؤال ليس تردداً لأنه سيذبحه أصلاً، لكن إبراهيم، ذاك النبي المستسلم لله تعالى في كل أوامره، أراد أن يشارك ابنه في الأجر. فماذا قال إسماعيل؟ إن أباه تركه وهو طفل في صحراء قاحلة، ويأتي اليوم ليخبره أنه سيذبحه..

[قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ٱلله مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ].

وهنا تأتي الآية المحورية: [فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ] (103)، وهنا يأتي سؤال: ألم يكونا مسلمين قبل هذا الطلب؟ طبعاً، لكن [أَسْلَمَا] هنا تصور معنى الإسلام الكامل، وهو الاستسلام لله تعالى دون أي تردد...

لماذا سميت السورة بالصافات؟
ما هي الصافات؟ هي الملائكة التي تصطف بين يدي الله تعالى استسلاماً له. لذلك بدأت السورة بداية رائعة بذكر هؤلاء العباد المخلصين.

وإننا نلاحظ في القرآن أن بدء كل سورة بالحديث عن الملائكة يعني أن محور هذه السورة يتعلق بالاستسلام لله أو الخضوع له، لأن الملائكة هم قدوة ورمز في هذا المعنى.

الاستسلام لله طوعاً أو كرهاً:
فإذا أبى المرء الاستسلام في الدنيا، فإن السورة تحذرنا من هول يوم القيامة: [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ & مَا لَكُمْ لاَ تَنَـٰصَرُونَ & بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ] (24 – 26).

كأنها تقول: استسلم في الدنيا طوعا قبل أن تستسلم في الآخرة كرها..

أرأيت كيف أنك ستستلم لله رغماً عنك يوم القيامة دون أن يفيدك ذلك في شيء؟

فاخضع له بإرادتك في الدنيا، واستسلم لأحكامه وشرعه حتى لو لم تعلم الحكمة منها. فلا ينبغي لأحد أن يمتنع عن تنفيذ حكم ما إلا إذا اقتنع أولاً... ومع ذلك فإن من كرم الله أنه جعل للغالبية الكبرى من أوامره تعليلات وحكم مقنعة، لكنه أبقى بعض الأوامر دون أن يطلعنا على الحكمة منها، حتى يعلم من سيطيع ويستسلم ومن سيعصي ويتكبر...