سورة إبراهيم

 


هدف السورة: نعمة الإيمان ونقمة الكفر
كثير من الناس إذا سئل: ما هي أعظم نعم الله عليك؟ سيجيب بالأمور المادية (الزوجة أو الأولاد أو البيت أو المال)، وإذا سئل بالمقابل عن أعظم مصيبة، سيذكر المشاكل الدنيوية وخسارة المال وضياع التجارة... فتأتي سورة إبراهيم لتصحّح هذا المفهوم وتوضح أن أعظم نعمة في الوجود هي نعمة الإيمان وأن أسوأ نعمة هي نعمة الكفر والبعد عن الله تعالى...

هل تستوي الظلمات والنور...
لذلك فإن السورة هي عبارة عن مقابلة مستمرة بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الكفر، بين النور والظلمات.. وبدايتها واضحة في هذا المعنى: [الر كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ] (1) وكأن المعنى: أيّها الإنسان أنظر إلى الظلمات والنور، وتأمّل نعمة الله تعالى واختر بينهما..

وجهان ليوم واحد
وتؤكد الآية الخامسة على نفس المعنى في قصة موسى عليه السلام: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱلله إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] (5) فما علاقة أيام الله بالصبر والشكر؟ إن أيام الله هي الأيام التي أهلك الله فيها الظالمين في كل قوم من الأقوام ونجّى فيها الصالحين، فكانت نعمة على المؤمنين ونقمةً على
الكافرين. والمؤمن يتخذ من تلك الأيام عبرة تعينه على الصبر وتحمل الأذى كما تحثّه على الشكر على نعمة الإيمان [إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ].

فمضى سيدنا موسى ليبلغ رسالة ربه كما أمر وليذكّرهم بأعظم نعم الله عليهم:
[وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِى ذٰلِكُمْ بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ] (6).
طريق الله نعمة وعزة، والبديل لا يكون إلا صغاراً وذلاً في الدنيا، كما بينت الآية على لسان سيدنا موسى.

(لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ)
ثم تأتي قاعدة عامة ووعد رباني لكل من يشكر نعم الله [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ] (7).
ومع أن الآية تنطبق على كل نعم الله، لكن ورودها في وسط الآيات التي تتحدث عن نعمة الإيمان، يشير إلى أهمية شكر نعمة الإيمان بشكل خاص، حتى يزيدنا الله من هذه النعمة، وإلا فإن الله غني عن العالمين: [وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱلله لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ] (8).

رسالة الأنبياء
وتبدأ الآيات بعد ذلك في الكلام على المواجهة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ولأن موضوع السورة هو نعمة الإيمان ونقمة الكفر، فإنها لا تتكلم عن كل نبي لوحده، وهذا يخالف منهج السور السابقة التي كانت تتحدث عن كل نبي مع قومه، أما هذه السورة فإنها تصوّر كل الأنبياء مع كل الكفّار، كما في قوله تعالى: [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ]، [وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ]. [قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱلله شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ] (10).

هل تفكّرت يوماً في أهمية هذه النعمة؟ ان الله تعالى بعزته وجبروته يناديك ويدعوك ليغفر لك ذنوبك وهو الغني عنك؟
واسمع إلى تأكيد الرسل مرة ثانية على أن ما هم فيه من إيمان ومعرفة بالله تعالى هو أعظم النعم [... وَلَـٰكِنَّ ٱلله يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ...] (11).

نعم... ونقم
وتتوالى أنواع النعم والنقم في السورة:
فيأتي قوله تعالى: [وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلاْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ] (14).

وتأتي مقابلها آيات شديدة في التحذير من نقمة الله:
[مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاء صَدِيدٍ & يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ & مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ...] (16-18).

آيات كثيرة تتواصل، إلى أن تصل بنا إلى خطبة إبليس في جهنم، والتي هي بمثابة قمة نقمة الكفر على أصحابه.

خطبة إبليس
[وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلاْمْرُ إِنَّ ٱلله وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى] (22).
تخيّل حسرة من سيسمع هذا الكلام! كيف تستجيب له وهو سيتبرأ منك بهذه الكلمات...

[فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (22)... فهل هنالك نقمة أشدّ من ذلك؟!..

الكلمة الطيبة..
وتصل الآيات إلى آية محورية تشير إلى أن أعظم نعمة هي نعمة الإيمان، يضرب الله لنا فيها مثلاً: [مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ] ولقد ضرب الله هذا المثال لأن الناس يظنون أن نعم الله إنما هي مادية، فيعلمنا الله تعالى بأن كلمة واحدة، نعمة واحدة، هي أعظم من كل النعم الماديّة التي يراها الإنسان... [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱلله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَاء & تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ ٱلله ٱلامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] (24 – 25) فكما أنّ الشجر يثمر ثماراً طيبة، فكذلك شجرة لا إله إلاّ الله، الراسخة الجذور، العالية الفروع، تثمر أشخاصاً مؤمنين (كأهل القرآن والدعاة إلى الله والإيجابيين وغيرهم من أهل الخير المؤمنين..). وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، حسنات وأعمالاً صالحة، تبقى لصاحبها صدقة جارية بعد موته.

وبالمقابل فإن كلمة الكفر هشّة، خبيثة، لا جذع لها ولا أصل: [وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ] (26).

(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱلله لاَ تُحْصُوهَا)
وتعدد السورة نماذج أخرى من نعم الله:
[ٱلله ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء...] و[وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ] (32).

[وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلانْهَـٰرَ & وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ...] (33).

كل هذه النعم مسخّرة تحت أيدينا، لماذا؟ حتى نعرف الله تعالى ونستشعر فضله ونسلك منهجه.

واللطيف أن الآية (34) تقول: [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱلله لاَ تُحْصُوهَا]. فلم تقل الآية وإن تعدوا نعم الله، بل أننا لو حاولنا أن نعدّد خصائص نعمة واحدة فقط (كنعمة الشمس مثلاً) لما قدرنا على إحصائها، فما بالك بأعظم نعمة؟ نعمة الإيمان بالله ومعرفة منهجه؟...

نموذج إبراهيم
ويأتي ختام السورة، وهو مقارنة بين نموذجين، نموذج لإنسان عاش في نعمة الله (سيدنا إبراهيم عليه السلام) واستشعر نعمة الإيمان، وبالمقابل نموذج لأشخاص عاشوا بعيدين عن الله وهم ظالمين لأنفسهم ومجتمعاتهم التي حولهم...

فسيدنا إبراهيم كان شكره واضحاً على النعمة: [ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ ٱلدُّعَاء] (39).
فكان دعاؤه الرائع ورجاؤه إلى الله أن يتم عليه نعمة الولد بنعمة أعظم منها وأجل: أن يحفظ الله دينه ودين ذريته بالصلاة:
[رَبّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلوٰةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء & رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ] (40 – 41).
وانظر لهذا الحنان من أبينا إبراهيم، وهو يدعو لنا ولأولادنا أن يثبتوا على الصلاة.

(وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ)
وبعد ذلك تختتم السورة بأشد آيات القرآن على الظالمين والبعيدين عن الله [وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلله غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلابْصَـٰرُ & مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء & وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ] (42-44).

هل بعد هذا من نقمة ومهانة وذل؟
إن أعظم نعمة في الوجود هي أن تنجو من هذا الموقف، وأسوأ نقمة في الوجود أن تكون مع من قال الله فيهم: [وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلاْصْفَادِ & سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ] (49 – 50)...

هذه سورة إبراهيم، سورة نعمة الإيمان ونقمة الكفر، سميت باسم سيدنا إبراهيم كنموذج لمن استشعر نعمة الله الكاملة وأدّى حق شكرها. من فضلك اقرأ هذه السورة واشكر ربنا على هذه النعمة العظيمة، لأن شكرك له سيرقيك في مراتب الإيمان [لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ] (7).