سورة سبأ

 


استسلام الحضارات لله
سورة سبأ من السور التي تتناول قضية التفوق الحضاري، كسورة النمل، لكنها تأتي مكملة لها في المعنى ; فبينما ركزت سورة النمل على الأخذ بمقومات الحضارة، من علم وتفوق تكنولوجي وإدارة، تأتي سورة سبأ لتسأل كل من يريد بناء أمة وحضارة: على أي شي ء تقوم هذه الحضارة؟ وعلى أي أسس؟ فهدف السورة هو: حاجة الحضارة للإيمان

والسورة تتحدث عن نموذجين متناقضين للحضارات: حضارة مؤمنة مستسلمة لله، وهي حضارة داوود وسليمان عليهما السلام، وحضارة عاصية رافضة لطريق الله وهي حضارة سبأ.

ومجيء هذه السورة في ترتيب المصحف بعد سورة الأحزاب يشير - كما ذكرنا - إلى أن إصلاح أحزاب الداخل بالإيمان هو السبيل لبناء حضارة قوية.

حضارتان في الميزان:
فالنموذج الأول، والذي يتمثل بالحضارة المؤمنة، هو نبي الله داوود الذي آتاه الله الملك:
[وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ] (10)، فلما استسلم لله تعالى وعبده حق عبادته، طوّع الله له الحديد، وسخّر له الكون كله بين يديه: [وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ] (12). لاحظ كلمات [أَوّبِى] و[وَأَلَنَّا] و[وَأَسَلْنَا لَهُ]، فكلها تصور كيف سخّر الله تعالى الكون كله لهذه الحضارة المؤمنة. لذلك فإننا نرى في سورة أخرى من سور الاستسلام لله، سورة "ص"، كيف ثبت الله ملك سيدنا داوود: [وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ & وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ...] (ص: 19 – 20).

أما النموذج الثاني، فهي الحضارة التي لم تستسلم لله فعوقبت وانتهت، وسميت السورة باسمها لتكون عبرة لمن يعتبر: [لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ & فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ & ذَلِكَ جَزَيْنَـٰهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ٱلْكَفُورَ] (15 – 17).

الجن في السورة
وبين هاتين الحضارتين، تأتي السورة على ذكر الجن، وكيف كانت حضارتهم مستسلمة إلى حضارة سليمان بشكل كامل: [وَمِنَ ٱلْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ] (12). هذه الحضارة لم تؤت قوة ولا سلطاناً ولا علماً، بدليل قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ] (14).

فهم كانوا يعملون بجد خوفاً من سليمان الذي كان يراقبهم، لكنه - عليه السلام - مات وهو متكئ على كرسيه دون أن يلاحظ الجن ذلك، ولم يعرفوا هذه الحقيقة إلا بعد أن أكلت حشرات الأرض من عصا سليمان... حادثة بسيطة تظهر هذه الحضارة المستسلمة لكن دون أي علم أو معرفة...

سنة كونية
وتصل بنا السورة، بعد عرض المثالين، إلى تعميم القاعدة بأن تكذيب الحضارات وكفرها بالله تعالى هو سبب هلاكها: [وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتَيْنَـٰهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ] (45) فبعد الحديث عن الأمم الغابرة، بينت السورة أن هناك أمماً كانت أقوى عشر مرات من قريش، ومع ذلك فقد انتهت حضارتها لأن القاعدة العامة قد جرت عليها.

ولذلك تأتي موعظة شديدة لكل من يريد أن ينشأ حضارة أو يبني أمة، افهموها يا مسلمين، واحفظوها يا من تريدون بناء مجد الإسلام:
[قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لله مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَـٰحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ] (46).