سورة طه

 


سورة طه مكية، نزلت بعد سورة مريم، وهي بعدها أيضاً في ترتيب المصحف. عدد آياتها 135 آية.

ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى
وهدف سورة طه نعرفه من بدايتها: [طه & مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَى] (1-2)...

ومعنى ذلك أن هذا الدين وهذا المنهج ليسا لشقاء الناس، بل إن الإسلام هو منهج السعادة. فلا شقاء مع الإسلام، رغم كل الظروف والصعوبات التي تواجه المتدينين، لكن الشقاء يكون في ترك طريق الله تعالى [.. مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ]...

إنّ أكثر من يستفيد برسالة هذه السورة هم الشباب البعيدين عن التدين، أو الذين يريدون الالتزام، لكنهم يخافون من أن التزامهم بمنهج الله تعالى سوف يمنعهم من السعادة، ويجلب عليهم الكآبة ويحرمهم من متع الحياة وأسباب اللهو والترفيه.. هذا المفهوم خاطئ جداً، لذلك تأتي السورة لتؤكد لنا أن الإسلام هو منهج السعادة، وأن من حاد عن هذا المنهج سيشقى في الدنيا والآخرة. معنى رائع ومفهوم جميل. كيف ترينا سورة طه هذا المعنى؟ تعال معنا لنعيش مع آيات السورة من أولها.

كيف تشقى مع الرحمن؟
تبدأ السورة بمقدمة رائعة تأسر القلوب بكلماتها: [طه & مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ & إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ] (1-3).
فالقرآن لن يكون شقاءً لكم يا مسلمين، بل إنه سيكون تذكرة لكم، وهذه التذكرة هي التي ستكون سبباً لسعادتكم.
[... تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى & ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ] (54).

واسمعوا هذا المنهج ينزل من عند من؟ الرحمن، وجاء ذكر اسم الله الرحمن بعد ذكر الشقاء ليعلم الناس بأنه لا يمكن أن يكون دين الرحمن هو سبب للشقاء، فكيف يشقى الإنسان بمنهج الله تعالى وهو الذي له الأسماء الحسنى كلها [ٱلله لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ] (8).

موسى والسعادة مع منهج الله
وتعرض السورة بعد ذلك نموذجاً كلنا نعرفه: سيدنا موسى عليه السلام: نموذج للصعوبات الشديدة أثناء الدعوة، لكنها محاطة بعناية الله ورعايته. وكأن هذه القصة تقول لنا: ليس معنى أن القرآن منهج الراحة والسعادة، أن الحياة كلها ستكون وردية بلا مشاكل ولا أحزان... إن الحياة مليئة بالعقبات، خاصة إذا كنت أيها المؤمن ممن يحملون هذا المنهج ويدعون إليه... إلا أن هذه الصعوبات لا تسبب الشقاء (والمقصود بالشقاء: النكد والكآبة، والهم والغم، وضيق الصدر) لأن المؤمن مهما واجه من صعوبات فهو موصول بربه، مستعين به في كل أحواله...لذا فهو دائماً راضٍ ومطمئن.

كلمات من نور
وقصة موسى تحمل في آياتها ملامح رحمة ربنا في وسط صعوبة الحياة وشدتها. وحتى طريقة عرض القصة واختيار الكلمات يتميزان عن باقي مواضع قصة موسى في القرآن. ومن ذلك قوله تعالى: [إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُواْ إِنّى ءانَسْتُ نَاراً] (10).

ولأن الرسالة شديدة وحملها ثقيل، ولأن سيدنا موسى كان يشعر بهيبة الموقف، تبدأ معه الآيات بسؤال لطيف وسهل للمؤانسة [وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ] (17).

وعندما دعا سيدنا موسى ربه، دعا بما يعلمه عن هذا المنهج من سعادة وطمأنينة وتيسير: [قَالَ رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى & وَيَسّرْ لِى أَمْرِى & وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِى] (25 – 27)..

لذلك تأتي آيات أخرى تحمل نفس الرقة ونفس الحنان.
[خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ] (21) [قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ] (36) [وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ] (37) [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِى] (39)..

[وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَـٰكَ مِنَ ٱلْغَمّ] (40) [وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى] (41) [لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ] (46) [لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلاْعْلَىٰ] (68) أريت كم مرة تكررت كلمتي: "لا تخَف"؟!! وكأن هذا نموذج حي لنُصرة الله تعالى لعباده المؤمنين... وكأن هذا نتيجة ثقة أم موسى في وعد الله وطاعتها له سبحانه، بإلقائها وليدها في البحر... وكأن هذا تعويضاً لموسى الذي أُلقي بأمر الله وهو حديث الولادة في صندوق مُظلم تتقاذفه الأمواج... نعم، لقد تعبت أم موسى وجاهدت نفسها، وتعب موسى في مواجهة فرعون، لكن طمأنة الله لهما كانت رائعة... وهكذا المؤمن، مهما مرت به المحن، تجده سعيداً راضياً تملأ قلبه السَّكينة...

فلماذا نضع الحواجز بيننا وبين التديّن؟ ونخافه ونرهبه وهو باب سعادتنا؟

من لطائف العناية الربانية
ومن لطف القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أمن له الكثير من الأمور التي أمّنها لموسى عليه السلام، فدعاء [رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى] يقابله قول الله تعالى للنبي [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ]. وقوله تعالى [وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِى] لسيدنا موسى جاء بنفس الكلمات لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم : [وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] (الطور 48).

وكأن هذه الآيات وعلاقاتها مع بعضها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد تمت هذه الأمور لك يا محمد.

ذاق السحرة طعم السعادة
ونصل إلى موقف السحرة مع فرعون، فهم قد تعرضوا للإيذاء الشديد من فرعون، ومع ذلك فإنهم لم يكونوا في شقاء أبداً، فقد قال لهم فرعون متوعداً:

[فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ] (71).

فماذا كان جوابهم؟
[قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءنَا مِنَ ٱلْبَيّنَـٰتِ وَٱلَّذِى فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا & إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـٰيَـٰنَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسّحْرِ وَٱلله خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ] (73).

كلمات في منتهى الروعة، تصدر عن أناس أسلموا منذ ثوان، ليبينوا من هو الشقي ومن هو السعيد: [إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ & وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلْعُلَىٰ & جَنَّـٰتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّىٰ] (74 – 76).

إنها سعادة غامرة تفيض من الآخرة على أيام الدنيا، فيقف بها المؤمن أمام طواغيت الأرض دون أن تهتز منه شعرة، لأنه ذاق طعم السعادة الحقيقية.

الشقاء مع ترك منهج الله
وفي نفس القصة، نرى نموذجاً معاكساً للسحرة: إنه السامري، الذي أضل بني إسرائيل بعبادة العجل، فكانت آخر آية في قصة موسى تبين شقاء هذا الرجل:
[قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى ٱلْحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ] (97).

ولهذا تأتي بعد هذه القصة آيات تعقب عليها، لتؤكد على هدف السورة، أن السعادة في هذا الدين وفي اتباعه، وأن الشقاء كل الشقاء في البعد عنه [كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ ءَاتَيْنَـٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً & مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وِزْراً & خَـٰلِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ حِمْلاً] (99-101).

ثم يقول تعالى عن سعادة وشقاوة أهل الآخرة: [وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَىّ ٱلْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً & وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً] (111-112).

سيدنا آدم والسعادة
وحين وصلت السورة إلى قصة آدم وحواء، ركزت من خلالها على هدف السورة: [فَقُلْنَا يٰـئَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ] (117). فترك منهج الله تعالى واتباع إبليس هما سبب الشقاء في الآخرة. لذلك تتابع الآيات ببيان أنواع السعادة في الجنة: [إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ & وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ] (118 - 119).

وهذه القاعدة تطبق على أدم وذريته حتى بعد الخروج من الجنة [قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ] (123).

الشقاء الحقيقي
لقد تكررت كلمة الشقاء ومشتقاتها ثلاث مرات في السورة:
[مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ... فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ... فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ] حتى لا يخاف أحد من التديّن واتباع منهج الله، فالسعادة كل السعادة مع التمسك بدين الله تعالى، أما من أعرض عن هذا المنهج، فتأتي آيات رهيبة في تصوير شقاوته في الدنيا والآخرة: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً] هذا في الدنيا فماذا عن الآخرة؟ [وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ & قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً & قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ ايَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ & وَكَذٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِـئَايَـٰتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ ٱلأَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ] (124 – 127).

أعلى مقامات السعادة
وقمة السعادة أن ترضى عن نفسك وعن حياتك، وترضى عن ربك وتحس برضاه.. وهذا ما يؤكده ختام السورة: [فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ] (130).

كل هذا إلى أين يؤدي؟ [لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ] (130).

فتسبيح الله تعالى وذكره وطاعته هما السبيل المؤدي لأعلى درجات السعادة، ألا وهي الرضا، وما هي السعادة سوى الشعور بالرضى؟ الذي حرم منه الكثيرون مهما تمتعوا بشهوات الدنيا من نساء وأموال وقصور وسيارات... فهم قد حرموا الرضا، الذي يؤتاه المؤمن بتسبيح الله تعالى وطاعته

إلى كل من يبحث عن السعادة، إلى الشباب الذين طرقوا أبواب المعاصي بحثاً عن السعادة وعادوا خائبين، من فضلكم، اقرأوا سورة طه:
[طه & مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ] (1).