سورة يس

 


الاستسلام في الدعوة إلى الله:

وسورة يس تظهر أن هناك نوعاً آخر من الاستسلام لا بد للمسلم من القيام به، وهو الاستسلام لله تعالى وتفويض الأمر إليه أثناء الدعوة إلى الله، بأن يبقى المرء مصراً على الدعوة إلى الله سواء اهتدى الناس أم لم يهتدوا، لأن الدعوة إلى الله عبادة لله، وأنت تتقرب إلى الله بهذه العبادة سواء أرأيت النتائج أمامك أم لم ترها...

ولذلك فإن سورة يس تصوّر لنا نموذجين من الناس: نموذج لأشخاص ما تزال قلوبهم تنبض بالحياة، ونموذج آخر لأشخاص ماتت قلوبهم. ولأن المرء لا يعلم ما في قلوب الناس فهو بالتالي لا يعلم من يرجى هدايته ممن لا يرجى فوجب عليه دعوة الجميع سواء اهتدوا أو لم يهتدوا.

سبب نزول السورة:
فتبدأ السورة بذكر الذين لا ترجى هدايتهم [وَسَوَآء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ] (10) ثم مباشرة تذكر من ترجى هدايته [إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِكْرَ وَخشِىَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ] (11). فالسورة تصوّر الفئتين كما ذكرنا، مما يوضح لنا سبب نزولها على النبي قبل الهجرة مباشرة، عندما توقف انتشار الإسلام وبدأ المسلمون يشعرون باليأس من دعوتهم. لذلك نرى آيات كثيرة تثبت النبي بأنه على الحق وتقوي عزيمته للاستمرار في طريق الدعوة.: [إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ & عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ & تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ & لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ] (3 – 6).

فالسورة تسأل الدعاة إلى الله، وتسألنا أيضاً: هل ستطيعون الله وتستسلمون له وتستمرون بدعوتكم؟ فالله وحده هو الذي يعلم ما في صدور الناس، ولذا وجب عليكم الاستمرار بالدعوة حتى لو كان ظاهر الناس لا يبشّر بالخير.

نموذج للاستسلام:
ونرى في هذه السورة القصة الشهيرة، قصة القرية التي أرسل الله لها ثلاثة من المرسلين [وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَـٰبَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا ٱلْمُرْسَلُونَ & إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ] (13 – 14). فهذه القرية قد أرسل إليها ثلاثة أنبياء، لكن هناك رجلاً أحس بمسؤوليته عن هذا الدين وكان موقفه رائعاً:

[وَجَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ & ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْـئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ & وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] (20 – 22) إنها قصة رجل لم يقف مكتوف اليدين دون أن يدعو إلى الله، بحجة وجود الأنبياء في هذه القرية، لكنه أصر على الاستمرار في دعوة قومه رغم أنهم لم يستجيبوا للأنبياء الذين هم أفضل منه بكثير... وهكذا نرى أن هذه القصة تصب في محور السورة مباشرة: إياك واليأس من دعوة الناس إلى الله.

الآيات الكونية ونهاياتها
وقد ركزت السورة على الموت والبعث، حتى نتذكر أننا جميعاً سنموت، مؤمنين وكافرين، طائعين وعاصين.. لذلك ينبغي الاستمرار في الدعوة، لعل الله تعالى يحيي قلب رجل عاص قبل الموت. وهذا المحور يأتي مقروناً بالآيات الكونية المذكورة في السورة، التي ركزت على نهايات الأمور، وكأنها تذكر الكافرين بالموت الذي هو نهاية التكذيب ونهاية كل الخلائق. إسمع قوله تعالى: [وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ & وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ] (38 – 39). أي أن للشمس والقمر نهاية، كما لكل المخلوقات.

إقرأوا يس على موتاكم:
ومن هنا نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إقرؤا يس على موتاكم". وليس المقصود من الحديث أن تقرأ في المقابر كما يفعل الكثير من الناس، بل أن تقرأ على الميت حال احتضاره. وكأن المعنى: إقرأ هذه السورة على كل حي، حتى أولئك الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة، لأن الحياة لا تزال موجودة فيهم فإذاً لا بد من توجيه الدعوة إليهم وعدم اليأس منهم... معنى جميل ومهم لكل الدعاة إلى الله.