سورة يونس

 


سورة يونس (مكية) نزلت بعد الإسراء، وهي في المصحف بعد التوبة، وعدد آياتها 109 آيات.

هدف السورة
إنَّ هدف سورة يونس هو الإيمان بالقضاء والقدر...
ففي الحديث أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أخبرني عن الإيمان، فقال لـه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره... فالسورة تعالج هذا الركن الأخير من أركان الإيمان.

تساؤلات وتشكيك
إن هذه السورة تعالج مشكلة عند أشخاص كثيرين، والتي تتجلى في تساؤلات مثل:
- هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟!
- لماذا هدى الله هذا الشخص إلى الإيمان ولم يهد ذاك؟
- لماذا أنجى الله فلاناً ولم ينج فلان؟!
- ربنا خلقنا ويعلم كيف نتصرف، وفرض علينا ظروفاً هو الذي صنعها، فكيف يحاسبنا يوم القيامة؟
- الله كتب على البعض عدم الهداية، فلماذا السعي إلى العبادة؟ وبعض الناس نسألهم لماذا لا تصلون؟ فيجيبون: حتى يريد الله تعالى.
- طالما أن الله تعالى قد كتب عنده إن كنا من أهل الجنة أو من أهل النار، فلم العمل؟ فمهما فعلنا لن يغيّر هذا من الأمر شيئاً!

الحكيم لا يعبث
تعالوا إذاً نعرف صفات ربنا سبحانه وتعالى، فإذا فهمنا أنه حكيم غير ظالم، يريد الحق وليس العبث، فهمنا أنه لا محل للسؤال أصلاً.

إن أفعال الله تعالى في الكون أفعال حكيم مدبّر، يرحم الناس، وليست أفعال ظالم يجبر الناس على أشياء ليس لهم يد فيها... فلا يصدر عنه سبحانه إلا الحكمة والتدبير والعظمة.

والسورة تؤكد هذا المعنى بطريقة رائعة، عن طريق التدبر في هذا الكون والتفكر في حكمة الله فيه، حتى نعرف هل يصدر عن الله العبث أم لا؟ إن السورة ستظهر لك أن كل ما في الكون إنما هو من حكمة الله وتدبيره، فمحال أن يصدر عنه العبث سبحانه، فثق بحكمته وتوكل عليه.

الحق عنوانها
ثم تأتي الآية التي بعدها [إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱلله حَقّا...]. والحق هو نقيض العبث والصدفة، لذلك تكررت كلمة الحق في هذه السورة - التي تتحدث عن التسليم لقضاء الله وقدره - ثلاثاً وعشرين مرة، وهي أعلى نسبة لورود كلمة الحق في القرآن، 23 مرة في سورة عدد آياتها 109، بينما أكثر سورة ذكراً للحق بعد سورة يونس هي سورة آل عمران، 13 مرة في 200 آية، وبهذا يتضح الفرق الواضح في النسبة، لأن سورة يونس تؤكد على ضرورة التسليم لله الحق في قضائه وتدبيره.

ونتابع مع الآية (4):
[إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱلله حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ].

فلينظر كل حائر وكل مشكّك إلى ملك الله وليتفكر في تدبيره وإدارته لملكه. فالآية حددت أن سبب تعذيبه لبعض البشر هو كفرهم به تعالى [... بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ].

ما خلق الله ذلك إلا بالحق
[هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱلله ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ & إِنَّ فِى ٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱلله فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ لآيَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ] (6).

إنها دعوة للتفكر في خلق الله عزوجل وتدبيره في الليل والنهار... فهل يصدر مثل هذا التدبير إلا عن الحق تبارك وتعالى!... فالذي يدبّر ذلك يستحيل عليه العبث، ويستحيل عليه إدخال الناس النار مجبرين.

عمن تصدر هذه التساؤلات؟
توضّح الآية السابعة من السورة نوع الناس الذين يعتقدون مثل هذه المعتقدات الباطلة في حق الله:
[إَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـٰتِنَا غَـٰفِلُونَ & أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ].

وهذه ملحوظة مهمة أتت بها السورة: فمن الذي يطرح هذه الأسئلة ويشكك في حكمة الله؟ إنهم غير المتدينين والبعيدين عن طاعة الله، وهم يطرحون أسئلة كهذه ليريحوا أنفسهم. ولم نسمع يوماً بشخص متديّن ينفّذ الطاعات ويشكّك بأن الله تعالى أجبره على الطاعة، لذلك فالمتدينون لا يطرحون أبداً مثل هذه الأسئلة.. والآية السابقة تبيّن لنا أن أصل المرض الذي أصاب هؤلاء هو الغفلة عن آيات الله وعدم استشعار حكمته في أوضح صورها.

حكمة الله في أفعاله
وتستمر الآيات لتؤكد على نفس المعنى: الله تعالى لا يصدر عنه العبث، فكل أفعاله حكمة..
[قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلاْبْصَـٰرَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىّ وَمَن يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱلله] (31)

فلماذا الشك والريبة ما دمتم تقرون بأن الله يدبر الأمر؟
[فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ] اتقوا الله فيما تقولون... ونعود لنسمع كلمات [ٱلْحَقُّ] و[حَقَّتْ] لتزيد من طمأنة قلوبنا: [فَذَلِكُمُ ٱلله رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ & كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] (32-33).

وبعد ذلك يقول عزوجل: [قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ قُلِ ٱلله يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (34).

فيا من تتهمون الله بتدبيره... أين التسليم لله، كيف تحكمون! بأي طريقة تفكرون وأنتم تعيشون في هذا الكون... اسمع هذا القسم الرائع من جبار السماوات والأرض:
[وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ] (53).

وبعد ذلك يقول عزوجل: [أَلا إِنَّ لله مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱلله حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] (55).
حشد هائل من الآيات يصب في نفس المعنى ويركز على نفس المحور ليزيل من القلب أي شبهة وتساؤل.

أفعالكم هي السبب
إن تركيز الآيات على الحق والحكمة والتدبير يظهر أن ما يحدث للعباد إنما هو بسبب عملهم وسعيهم.
فلا يقع الهلاك من الله إلا بعد الظلم من البشر.. يقول تعالى: [إِنَّ ٱلله لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] (13).

فالناس هم الذين يظلمون أنفسهم، ولا يجوز أن يتهموا الله بالظلم لما يصيبهم من عذاب ومصائب، بل يجب أن ينظروا ماذا فعلوا هم حتى أصابهم الله I بهذا العذاب.
ويظهر هذا المعنى جلياً في قوله:
[وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ...] (13).
متى وقع الهلاك؟ عندما ظهر ظلمهم وفسادهم. فأفعال البشر هي السبب الأول لما يحل بهم من العقوبات.

وتأتي آيات كثيرة لتخدم نفس المعنى: [وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيّئَاتِ جَزَاءُ سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ...] (27).
[هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ...] (30).
[كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] (33).
وبالمقابل، ترينا الآيات أن المثوبة الربانية لا تكون عن عبث، بل إنها رهن بمن استحقها: [لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ...] (26).

الله أعلم بعباده
وإذا تابعنا قراءة الآيات، وجدنا أن السورة تنتقل إلى مفهوم جديد وسؤال مباغت:
كيف تتعجبون من قضاء الله وأفعالكم أنتم تجاه قضاء الله وقدره أشد غرابة؟ اسمع معي الآيات:
[وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرّ مَّسَّهُ...] (12)

هذه الآية تصور لنا مشهدين بشكل رائع: مشهد الإنسان المهموم الذي يدعو الله تعالى بأي طريقة (لجنبه أو قاعداً أو قائماً) وفي هذه الصورة تثاقل وبطء، حتى إذا انتهت الأزمة كان تصرفه وغفلته سريعين (مر)...كأنه مر بدون أن يتوقف ليشكر أو يلتفت ليتدبر.

وفي آية أخرى:
[وَإِذَا أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءايَـٰتِنَا قُلِ ٱلله أَسْرَعُ مَكْرًا] (21).

فهذه الآية تشرح كيف يقع القضاء والقدر، فإن كان بعض البشر مستغرباً من قضاء الله، فإنه تعالى يعلم من منكم سيشكر ومن منكم سيكفر، وتأتي الآية التي بعدها لتوضح المعنى أكثر [هُوَ ٱلَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا...] (22).

ولا يصفو القلب لخالقه إلا عند الشدة، ولا يرق إلا في الكوارث، فإذا مرت بسلام نسي اللجوء إلى خالقه من قبل... أنظر بالله عليك، ماذا بعد الريح الطيبة التي فرحت بها القلوب وذهلت عن صاحب النعمة: [... جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱلله مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ] (22).

وما يحدث في أمواج البحر يحدث أيضاً بين أمواج الحياة وتقلباتها.
فماذا يكون حال ركاب السفينة عند النجاة؟
[فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلاْرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ] وتلك قمة التناقض، وغاية الانحراف عن الحق، لأن الله غني عن البشر [يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (23).

فما علاقة هذا المثل بهدف السورة؟ كأن المعنى: لا تعجبوا من قضاء الله فيكم لأنه يعلم من منكم سيشكر بعد رفع البلاء ويتوب، ومن سيعود إلى جرمه ثانية!..

رسائل القدر
أحيانا يقع قضاء الله وقدره لأنه عزوجل أعلم كيف سيتصرف كل إنسان بعد رفع البلاء، لأنه لا يوجد إنسان إلا وقد تعرّض لمواقف قبل أن يأتيه البلاء، ويظهر من خلال المواقف كيف سيكون تصرفه بعد رفعه. فالإنسان يختبر بابتلاءات صغيرة فيدعو الله تعالى، وقد يهلكه الله لأنه تعالى يعلم كيف سيتصرف العبد إذا ما رفع عنه البلاء، كما تصرف في السابق مرات عديدة...

فالقضاء والقدر إنما هو بحكمة من الله تعالى وليس عبثاً، وقد ندرك هذه الحكمة وقد لا ندركها، وحتى لو لم ندرك الحكمة بعقولنا البسيطة فلا يجوز لنا أن نتهم الله تعالى في حكمته، ولكن ينبغي التسليم والثقة المطلقة بالله والتوكل عليه، واليقين بأنه هو الحكيم العليم الذي لا يظلم أبداً...

أنبياء الله والتوكل
لذلك جاءت قصص الأنبياء في هذه السورة لتؤكد على معنى التوكل على الله عند دعوة الأنبياء لأقوامهم:
نوح: [... يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ٱلله فَعَلَى ٱلله تَوَكَّلْتُ...] (71).
موسى: [وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِٱلله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ & فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱلله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ] (84-85).

فرعون وقوم يونس
ونصل إلى ختام السورة حيث تذكر لنا السورة قصتين لتوضيح ما سبق: فرعون، وقوم يونس.

فبعد أن أوضحت السورة في كثير من الآيات حكمة الله تعالى وتدبيره، وتصرفات البشر حيالها..ضربت السورة مثالين: الأول لفرعون الذي كذب بآيات الله، والثاني قوم يونس الذين كذبوا بالله أول الأمر.

وفي المثلين تجد أن النبيين ذهبا إلى البحر: موسى ويونس. وظل القومان على تكذيبهما حتى نزل بهم العذاب جميعاً، لكن الذي جرى هو هلاك فرعون وآله ونجاة قوم يونس...

يقول الله تعالى : [وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرٰءيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ] (90) فيظهر هنا إدعاء الإيمان، فيأتي الرد:
[ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ] (91).

أما قوم يونس، فقصتهم شبيهة بقصة فرعون، وقد نجوا فيما أهلك فرعون. اسمع الآيات:
[فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ] (98).

فالعذاب كان قد نزل، ولكن الله كشفه عنهم بإيمانهم، فما الفرق بين فرعون وقوم يونس؟ فكلاهما قال آمنا! وكلاهما تركهم رسلهم لأنهم كذبوا؟ فلماذا أهلك فرعون فيما نجا قوم يونس؟ هل ظلم فرعون وحابى قوم يونس؟ إنها مسألة رائعة في القضاء والقدر...

لماذا سورة يونس...؟!
ذكر اسم سيدنا يونس في هذه السورة في آية واحدة فقط، وهناك سور كثيرة جاء فيها ذكر هذا النبي الكريم أكثر من هنا. ولم يذكر سيدنا يونس في السورة بل ذكر قومه فقط (لأنه تركهم أصلاً وكان في بطن الحوت عند إيمانهم)، فما الحكمة؟

لقد سميت هذه السورة بسورة يونس حتى يبقى مثل قوم يونس شاهداً على حكمة الله، وأن الإنسان لـه دور فيما يحدث لـه ويقع عليه، لأنهم بعد التوبة استمروا على طريق الهداية رغم غياب نبيهم، كأن القصة شاهد ودليل أن حكمة الله كانت في محلها [وَكَفَىٰ بِٱلله شَهِيداً].

وقد تقول في نفسك: ولم لم يعط فرعون الفرصة، فقد يتوب هذه المرة... راجع الآيات (22 و23). وكأنها تقول لك: ألم تقرأ السورة؟ ولم توقن بحكمة الله؟ إن الله هو أعلم بفرعون منك، والقضاء والقدر لا يكونان إلا بحكمة من الله تعالى، وليس عبثاً، وقد تدرك الحكمة وقد لا تدركها، فثق بأن الله حكيم عليم لا يظلم أحداً، وتوكل عليه.

كيف تتعامل مع قضاء الله؟
ثلاثة أوامر تختتم بها السورة لتكون درساً عملياً في الإيمان بالقضاء والقدر:
سلم له - لا تلجأ إلى غيره - توكل عليه.
[وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ & وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱلله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ] (105-106).

ولا يضعف إيمانك بالقضاء والقدر مهما كان لأن كل ما يقدره الله هو لخير العباد ورحمتهم:
[وَإِن يَمْسَسْكَ ٱلله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ]... (107) فسلّم لقضاء الله وقدره، تسلم في الدنيا والآخرة.