لاجئ إسرائيلي ولاجئ فلسطيني

 

>> صفحات خاصة >> القضية الفلسطينية

بقلم / توفيق أبو شومر

كتب سيفر بلوتسكر الخبير الاقتصادي في صحيفة يدعوت أحرونوت الإسرائيلية مقالا،منذ أيام بعنوان: ( لم نعد لاجئين)

قال: ولدتْ أمي عام 1914 بعد الحرب الأولى مباشرة في وسط بولندا، وكانت تنتمي لأسرة غنية أرستقراطية، وفي الحرب غادرت الأسرة منزلها الكبير، وأصبحوا مهاجرين في الإمبراطورية النمساوية، وعادوا عند انتهاء الحرب، وكانت تلك هي الهجرة الأولى.

ثم سافرت أمي إلى كراكوف لدراسة الكيمياء، وكان الطلاب اليهود يجلسون في مقاعد خاصة، وقابلت والدي وتزوجا عام 1938 وأجَّلا الاحتفال بشهر العسل، حتى وقعت الحرب الثانية، وظل شهر العسل مؤجلا إلى الأبد. وبعد عام هربا غربا إلى روسيا وصار الاثنان لاجئَيْن مرة أخرى، وناما في الطرق ومحطات القطار.

ثم عادا إلى بولندا كلاجئين مرة ثالثة حيث استقبلا باللاسامية فكانا يسمعان أقوالا جارحة:
لماذا عدتم؟
لماذا لم يقتلكم هتلر؟

وعشنا في المدينة الصناعية (لودز) مع عائلات كثيرة في البيت نفسه وكانت دورة المياه مشتركة، وكانت لأسرتنا غرفة ونصف الغرفة وكان الممر ضيقا ومظلما، والموقد الوحيد أسود.

كان والدي صهيونيا يعمل في منظمة يهودية، وأمي كانت تطرق الأبواب تبحث عن عمل.

وفي إحدى الليالي زارنا البوليس السري البولندي، لأننا لم نكن شيوعيين ، وكان عددنا قليلا، وكل من ليس شيوعيا فهو متهم بالعمالة للأعداء.قالت أمي: " غيرتُ هجرتي بهجرة جديدة"

وعدنا إلى أرض الميعاد، ولكن أمي ظلت في حالة هجرة ، ولم تتمكن من الخروج منها سنوات طويلة ، فأرسلتنا الوكالة اليهودية من مخيمٍ إلى مخيم، ثم منحتنا شقة صغيرة بين حولون وبيت يام، وطلبوا من والدي أن يكون متفائلا وفخورا، لأن محطة قطار ستمر بجوارنا مما يجعل من بيتنا ثروة كبيرة لنا، وقد كانوا يتنبأون بأن قطارا سيمر من هنا ، ولكن في عام 2010 بعد خمسين عاما!

عملت والدتي خادمة في شمال ووسط تل أبيب، وكانت تغسل وتمسح كما يفعل العامل الأجنبي.

وبالمناسبة فقد حضرت ندوة عن التمييز في إسرائيل وسألني أحد الأساتذة:
ماذا تعرفون أيها الإشكنازيم عن الفقر؟!

لم أجب فلا ينبغي أن أضع سيرتي ضمن الندوة، غير أنني قصصتُ بإيجاز سيرة والدتي، وتساءلتُ ماذا ورثتُ من سيرة والدتي سوى الهجرة؟ وعندما يسألني الناس: لماذا أنا صهيوني؟
أجيبهم : حتى لا يصبح أولادي لاجئين مثل والدتي ! (انتهى الاقتباس ... يدعوت أحرونوت 8/4/2009 )

أثارتني كلماتك أيها الكاتب سيفر بلوتسكر ! وحرّكت أشجاني وهأنا أهديك لقطاتٍ من قصة لجوئي، وهي بالمناسبة أقلّ قصص اللاجئين الفلسطينيين تراجيديا ومأساة:

فقد حملتني أمي على كتفها، في هجرتي الأولى عام 1948 عندما كان عمري سنة ولم تجد مكانا تأوي إليه، ولم تجد ما تأكله لتطعمني من حليبها ،لذا بقيت أبكي يومين، وظل جدي في بيته صامدا،ورفض أن يخرج من البيت وعلمنا بعد شهر بأن جنديا من جيش الدفاع أطلق على رأسه رصاصة واحدة وهو مستلقٍ على فراش نومه، لأنه كان ينام في بيتٍ ليس من حقه النوم فيه،لأن البيت وما يحويه أصبح ملكا لإسرائيل. وللعلم فقط فلم يكن في بيتنا أي سلاح !

أما أنا فحين وصلتُ إلى غزة (دير البلح)، كنتُ بين أحضان والدتي، فاستلقت والدتي بجوار أحد البيوت الطينية،وعطفت إحدى نساء البيت عليها وقدمت لها الطعام الأول المكون من كسرة خبز وقرص من الجبن الناشف، وثلاث حبات من الطماطم المجففة، وكانت هذه الوجبة الأولى بعد ثلاثة أيام، ثم عشتُ في مخيم لاجئين بالقرب من شاطئ البحر. كنا ننام على الأرض وليس هناك سوى دورة مياه واحدة لأكثر من مئة فرد، تقع بعيدا عن البيوت، وكان الماء الوحيد الذي نشربه هو الطبقة السفلى من ماء البحر المالح، أما عن الموقد فقد كنا نوقد زفت البحر الأسود الذي طفا على ماء البحر وقذفته الأمواج من مخلفات السفن .

أما عن الأفراح، فكان أول فرحٍ أحضره هو فرح عمي الذي زفت إليه زوجته في ليلة الدخلة بدون طعام أو ورود ، كل ما تمكنت الأسرة الكبيرة من توفيره ، هو بعض حبات الحلوى الصغيرة التي لا يتجاوز حجمها حجم حبة الفول، وكان عددها أقل من عشرين حبة ، حتى أنني أذكر بأن معركة دارت بين الأقارب لينالوا حبة واحدة فقط.

أما عن الدراسة فإليك أيها الكاتب الكبير هذه القصة :
فقد كنت أذهب إلى مدرستي حافيا ، وذات يوم استلمنا صرة ألبسة من هيئة الأمم ، فوجدت بها حذاء رياضيا أبيض اللون، فغمرتني سعادة وبهجة بالحذاء لكنها سعادةٌ موقوتة لم تدم سوى دقائق معدودة، لأن الحذاء كان أصغر بكثير من قدمي الحافيتين، فهل تعلم ماذا فعلتُ به؟

غمسته في الماء نصف يوم بعد أن حشوته بالألبسة وبقايا الوراق، غير أنه بقي ضيقا، فاضطررت أن أُجريَ له عملية جراحة فشققت الفردتين لأتمكن من إخراج إصبعين من أصابع قدمي خارج الحذاء حتى يتسع لهما ، وكنت أذهب به إلى المدرسة على هذه الصورة !

أما عن أسرتنا فلا تسل، كنا ننام في غرفة واحدة سعتها متران في ثلاثة أمتار ، نفترش الرمل ، ونضع فوق أجسادنا بطانية خاكية اللون نشدها فوقنا، وكانت أمي تلبسني كل ملابسي في الشتاء حتى أحس بالدف، وحين كانت الرياح تشتد ولا تمطر ،كان الريح يحمل رمل البحر الناعم ويُدخله من شقوق القرميد مباشرة إلى عيوننا، أما إذا أمطرت، فنتقلص جميعنا في نصف الغرفة هل تعرف يا سيد بلوتسكر لماذا؟

لكي نضع الصحون والعلب التنكية الفارغة لتتلقى السيل الهابط إلينا من شقوق السقف القرميدي .

أما عندما أعاد الجيش الإسرائيلي احتلال فقرنا وقهرنا الجديد عام 1956 مدة ستة أشهر واحتل غزة، فقد قتل الجيش أبناء عمومتنا في مخيم خانيونس، عندما قصفوا بيتهم ، فمات الرجل وابنه وزوجته.

وإليك قصة أخرى من قصص لجوئي:
فبعد أن دخل الجيش معسكرنا عام 1956، ولم يعد في البيت قطرة كاز واحدة للموقد والمصباح اصطحبتُ أختي الصغيرة، في رحلة المجهول إلى الشرق لأجمع الحطب، وكان عمري تسع سنوات وعمر أختي سبع سنوات ، سافرنا قبل طلوع الشمس من مخيم دير البلح ،إلى أن وصلنا أكمة تقع شرق مخيمنا بمسافة بعيدة، حيث رأينا الأعشاب الجافة تملأ المكان ، ولم نكن نعلم بأنها من بقايا حصيدنا الذي صار حصيدا لإسرائيل، وشرعنا في تكويم الحطب لنحمله في ربطتين، وما إن عثرت على سلك لأربط الرزمتين، حتى أصابني الرعب من الرصاص، فاختفيت لجهلي أنا وأختي خلف الحزمتين ظنا منا أنهما ستكونان درعا واقيا لنا من الرصاص ، ولم نكن نعلم بأننا كنا قد تجاوزنا الحد الفاصل بين مهجرنا الجديد، وبيتنا العتيق، إلا حين شاهدنا أطفالا مثلنا يهربون من بعيد وهم يقولون: الجيش يطلق النار عودوا إلى بيوتكم.

نجحت في جر الحزمتين أنا وأختي، فقد كان الحطب يومها – يا سيدي -أهم من حياتنا نفسها.

ولم نكن نعلم بأننا سنصاب بالظمأ والجوع، عدنا نلهث وكنا نعلم بأن المسافة طويلة ، ولكنني عثرت وأنا في طريق عودتي على بعض قشور البرتقال ، فكانت تلك وجبة إفطاري وغذائي وعشائي، أنا وأختي الصغيرة.

أما عن هجرتي الثانية فكانت إلى الجامعة المصرية، وحين ذهبت بما يدخره والدي من بقايا النقود أصابني الذعر، حملتُ حقيبتي من بوابة الحديد على رأسي العاري ، وطفت بها شوارع العتبة الخضراء لأن دفع ثمن عربة الحنطور يرهق ميزانيتي، فكل ما أملكه من مال لا يكفي أسبوعين، فطفت أبحث عن أرخص الفنادق حتى داهمني الظلام الأول في غربتي،فقررتُ أن أنام تحت سلم أحد الفنادق ، إلى أن اتفقت مع حارس الفندق أن يأخذ مني ثلاثة قروش فقط في غرفة تضم خمسة وأنا السادس ، بشرط أن أنام على الأرض، فليست هناك فرشات في الفندق .

وحين أنهيت دراستي القاسية الشاقة عام 1967 ،لم أكن أتوقع أنني أصبحت بعد الحرب أعيش لجوئي الثاني ، المتفرع من لجوئي الأول ، فلم يُذكر اسمي في سجلات الجيش عندما جرى إحصاء سكان مخيم دير البلح ، لذا فلا يحق لي العودة حتى إلى مخيم لجوئي الأول في غزة ، إذن فقد أفرخ اللجوء الأول لجوءا ثانيا ، وكان حاصل جمع اللجوءين، لجوءا ثالثا إلى الجزائر.

وأمضيتُ فيها سبع سنوات، إلى أن حانت هجرتي الرابعة ، فقد قررت أن أتزوج فتاة من وطني، وكنتُ أعلم بأن سلطات جيشكم لن تسمح لي بالوصول إلى أهلي حتى لعقد قراني والاحتفال وسط أهلي ، لذا فقد عقدتُ القران على زوجتي غيابيا ، فقد كان والدي يمثلني وفق العقد الذي أرسلته له موقعا وموثقا من القاضي الجزائري، وصدقته من السفارة المصرية.

ابتسمتُ يا سيد بلوتسكر، حين وصفتَ شهر عسل والدك ووالدتك بأنه ظل مؤجلا إلى الأبد!

أما أنا فقد التقيت بزوجتي للمرة الأولى في بلد محايد وهو قبرص، ولم نحتفل أي احتفال بالزواج ، واستبدلنا شهر العسل بشهر معاناة وألم، نقف فيها أمام أبواب السفارات من قبل شروق الشمس ، وحتى مغادرة آخر الموظفين المختصين في السفارات العربية والأجنبية التي ننوي أن نمر بأراضيها، لنتمكن من أخذ تأشيرات المرور على وثائق سفرنا التي لا يعترف بها حتى من أصدروها !.

وبعد الزواج هاجرت الهجرة الخامسة من الجزائر إلى ليبيا ، حيث قررت أن أكوِّن فيها أسرتي ، فرًزقت بطفلين، في هجرتي الخامسة ، وكنتُ أودّ ألا أورِّثهما هجراتي المتعددة مثلكم تماما ، كنتُ أعتقد بأنهما سيحظيان بحياة أفضل من حياة هجراتي المتعددة .

ظللتُ أناضل عشر سنوات في ليبيا أتعرف يا سيد بلوتسكر ما سبب نضالي؟

كنتُ أطلب من والدي ووالدتي بواسطة كوبونات المراسلة الدولية أن يُراجعا مكتب الحاكم العسكري في غزة ليتمكنا من تسجيل ابنيَّ في هوية أمهما إلى مخيم لجوئي الأول، فهي تحمل هوية مختومة بخاتم جيش الدفاع، منذ تركتْ هي غزة.

وأخيرا تمكن والداي بعد سنوات من مراجعة مكتب الحاكم العسكري الحصول على الموافقة بإضافة ابنيَّ إلى هوية والدتهما، فصارت لهما حقوق المواطنة في موطن هجرتي الأولىن مخيم دير البلح، أما أنا رب الأسرة فلا أملك هذا الحق !

فصار كل ما أدخره يذهب في نهاية العام تكاليف سفر موزعة بين فروق تذاكر الطائرة ، وبين الهدايا والإقامات في الفنادق ورشاوى السماح بالمرور في البوابات والحواجز الكثيرة.لتتمكن عائلتي من المحافظة على إقامتها في موطن هجرتها الأول مخيم دير البلح !

تخيل ياسيد سيفر بلوتسكر... لقد تحول كل حلمي من بيتي ومسقط رأسي في قرية بيت طيما ، إلى حلمي بالعودة حتى إلى مهجري في مخيم دير البلح للاجئين، ولم أطلب حق العودة إلى بيتي الأول. تصوَّر !!

وأخبرك بأنني لم أختر هجرتي السادسة إلى السعودية طوعا، فقد حسبت بأنني سأتمكن من إعالة أسرتي وتعليم إخوتي، وهي مهمة مارسها كل الفلسطينيين،فكل ما كنت أدخره أوزعه نصفين نصفا للسفر من مطار يرفض دخولي ، ويعيدني إلى الطائرة نفسها بعد أن أدفع تذكرة سفر جديدة ، وأنا تحت الحراسة ، إلى مطار آخر يُدخلني بعد عناء تحت الرقابة والمتابعة، وبين مصاريف أخي الذي يدرس في أوروبا.

أما عن الهجرة السابعة فقد كانت هجرة وعودة في الوقت نفسه إلى غزة، بعد أن دفعتُ ما أدخره لأحد المقربين من جيش الاحتلال حتى يحصل لي على بطاقة جمع شمل العائلات، وقال بعد أن أخذ مدخراتي : المال ليس لي ، ولكنني أقتسمه مع ضابط ركن جيش الاحتلال !

وحين عدتُ إلى غزة عقب الهجرة السابعة ، كنتُ أظن بأنني نجحت وأنهيت مسلسل الهجرات إلى الأبد، وكنتُ سعيدا لأنني لن أورّث ابنيَّ جينة الهجرة بعد اليوم !
ولكنني – سيدي - لم أكن أعلم بأن ابني الذي سافر ليكمل دراسته في الخارج، سيُكتب عليه أن يرث جينة هجرات جديدة،أشد إيلاما من نسخة هجراتي السابقة !

فعندما سافر، لم يتمكن من العودة، بسبب إجراءات الجيش الذي أغلق كل منافذ العبور فكان ابني واقعا بين خيارين مُرَّيْن؛
إما أن يعود إلى كنف الأهل ويستغني عن دراسته، لأن المعابر والثغور والحدود مغلقة بأمرٍ من جيش الدفاع، وإما أن يبقى في بلاد الغربة ليكمل مسيرته الدراسية ويظلّ لاجئا !!

سيدي الكاتب الكبير سيفر بلوتسكر، لم تنته حتى مسيرة هجرتي في سبع مراحل، ولكنني مارستُ هجرة ثامنة في هذا العام، وكانت هذه الهجرة الثامنة من أبشع الهجرات جميعها، وهي الهجرة الوحيدة الموثقة إعلاميا ، وحدثت هجرتي الثامنة حين أخرجني الرعبُ من قوات الجيش الإسرائيلي من شقتي في حي تل الهواء ، وألجأني إلى مدرسة من مدارس وكالة غوث اللاجئين يوم 17/1/2009 .

أخيرا:

أقدر حرصك على أن لا تورِّث أبناءك حالة الهجرة التي عانتها والدتك، أما أنا فأبلغك بأنني فشلتُ فيما نجحتَ أنت فيه، فقد ورَّثتُ أبنائي جينة الهجرة والتهجير ، وهأنذا أستعد لتوريث أحفادي هذه الجينة اللعينة، جينة اللجوء والهجرة !!

كما أقدر معاناتك السابقة، وأشكرك لأنك لم تتهم في كل هجراتك وآلامك السابقة شخصا من أقاربي ، أو من أقارب أقاربي، أو حتى ممن ينتسبون إلى لغتي، بالتسبُّب في هجرة والدتك، فقد برَّأتنا من كل التهم المنسوبة لنا.

وآمل منكم أن تتفضلوا بالإشارة إلى المتهمين في مسلسل هجراتي السابقة مع شكري وتقديري لكم !!